استوقفني مشهد طفلين يتحدثان، الأول لاجىء فلسطيني والثاني لاجىء سوري. يقول الأول للثاني إنتو عايشين هون عنا، فيجيبه الثاني بس هيدي كمان مش أرضكم، أرضكم فلسطين، صمت الأول دون إجابة، وللإثنان عدو يحتل وطن، وحلم بالعودة.
 

في ذلك الحي الفقير داخل مُجمع فلسطيني في إحدى أحياء مدينة صور يسمى "المعشوق"، باحة صغيرة سنحت للأطفال لعب الكرة بِحُرية، إنها حرية لعب الكرة، وإن استوقفتهم لحظة لتسألهم عن نوعٍ اخر من الحرية؛ عن حرية الوطن، حرية لم يذوقوا طعمها بعد، ووطن محتل لم يروه منذ الولادة، ربما سيصمت الأطفال ليختاروا الإستمرار باللعب لأنهم لم يفهموا السؤال لصغر سنهم؟ أو أنهم يعرفون الإجابة لكن براءتهم تمنعهم من التعبير عن أي إجابة صحيحة عن الحرية؟
"ماذا تعرف عن فلسطين؟" لو سُئل رجل عجوز فلسطيني هكذا سؤال سيُحدثك عن قصصٍ طويلة من البطولة والمغامرات والمعاناة والهجرة، وإذا سُئل لشاب سيُحدثك عن المقاومة والعروبة والنضال. أما إذا سُئل لطفلٍ صغير فماذا سيقول؟؟


"حلوة" هكذا يرى زياد (9 سنوات) وهو لاجىء من مدينة عكا بلده فلسطين، أما إبراهيم (11 سنة) من قرية الدامون الفلسطينية يقول "فلسطين بلدنا"، ليأتي إبن قريته الطفل حسين (13 سنة) مستذكراً بثقة تواريخ وأسماء قائلاً:" فلسطين دولة غير مستقلة، عاصمتها القدس، إحتلتها إسرائيل بعد وعد بلفور عام 1917، وفي ذلك الوقت إتفق ريتشارد أحد زعماء الحركة الصهيونية مع بريطانيا على تأسيس دولة كبيرة إسمها إسرائيل، واتفقوا وأخذوا فلسطين بعد هجرة الأهالي. وفي عام 1947 تهدمت فلسطين، وهنا بدأت النكبة عندما خرج شعب فلسطين من أرضه، وبعدها الرئيس ياسر عرفات ورجاله لم يقدروا على فعل شيء، وهكذا أخذت اسرائيل فلسطين منا".
واستغراباً لمدى قدرة حسين على معرفة كل تلك المعلومات ظناً أنه تعلمها في المدرسة، نفى حسين ذلك مجيباً "أتتبع أخبار فلسطين عبر التلفاز، وأذهب إلى مكتبة صغيرة عندنا في الحارة وأستعير منها كتب مجاناً، وأقرأ تلك الكتب لأنني أحب التعرف على أرض فلسطين" ناصحاً زياد وابراهيم الذهاب معه إلى المكتبة قائلاً: "المكتبة هون حد المستوصف مش بعيدة بتشوفو تراث فلسطين وببلاش".
وعن فلسطين "الحلوة" كما وصفها زياد يقول: "لما بشوف صوَر لفلسطين بكون مبسوط كتير". أما حسين فرأى وطنه فلسطين من بعيد متفقداً أشجارها، يفصل بينه وبينها حدود منعته من دخولها "لما روح على الحدود بمارون الراس بشوف من بعيد البساتين والشجر" يقول حسين، ويكمل ابراهيم الحديث متحمساً "إيه مرة رحنا أنا وأهلي على مارون الراس، شفنا بستان شو حلو، حلو كتير كتير، بس... زرعوا الإسرائيليين" يقاطعه حسين "ما حتى إنو الإسرائيليين بيهتموا أكتر منا بالزراعة" فيجيبه ابراهيم "إيه لأن مفكرين فلسطين بلدن وأرضن".
إقرأ أيضاً: مريض السرطان يعيش معه ولا يعرفه، قصص من الواقع
وسط ذلك الحديث ظل زياد ذلك الصبي الصغير جداً، صاحب الإبتسامة الشاردة، صامتاً أحياناً كثيرة تاركاً الحديث كله تقريباً لإبراهيم وحسين، وهما يجيبان على كل الأسئلة، وهو يستمع إليهما كأنه يقول "أريد أن أعرف مثلهما"، وعند أي سؤال يُصر زياد على الإجابة قائلاً "أنا بدي جاوب"، وعند السؤال يضحك قائلاً "مش عارف". لكنه نجح في الإجابة على أهم سؤال في تعريف العدو الإسرائيلي ليقول ببراءة: "الإسرائيلي بكَسِر البيوت والمباني، بيصير يقوّس على الناس الفلسطينية، وهني بكبوا حجارة عليه، والإسرائيلي بيقتل ولاد كتير منن قد ما بدك"، ولو كان مكان أولئك الأطفال يقول: "إذا أنا شفتو؟ بدي إغدرو متل ما غدرنا".
عبارةٌ ختم بها ذلك الطفل حديثه دون معرفة الخطر الذي يعيشه أي طفل فلسطيني على أرض فلسطين في غزة والضفة؛ يعيش حياة السلم مرة، وحياة الحرب ألف مرة. وفي ما إذا كان زياد وابراهيم وحسين يفضلون العيش كما الأطفال في فلسطين يقول حسين: "ربما العيش هنا أمان أكثر لهم، لأنه أثناء حرب غزة في العيد، كان الأطفال يلعبون على الأرجوحة وضربهم العدو بقذيفة" صمت قليلاً وقال:" ماتوا كلن، حزنا كتير، تأسفنا إنو مش قادرين نعمل شي لبلدنا، بس هني الولاد ما بدن يستغنوا عن أرضن، ونيالن لأنهم هونيك". ويضيف ابراهيم: "مش قادرين نعمل شي لأنه إسرائيل كلها هونيك ومحتلة كل فلسطين" يقاطعه حسين: "إيه بس نحنا لازم نجمع قوتنا لنقاتلن ونحارب بالعلم والسلاح، العدو مش أقوى منا لأنه بخاف وبيهرب من ولد صغير عم يرمي عليه حجر". ويصر ابراهيم نفي قوة عدوه أمام قوة طفولتهم مستذكراً مشهد الطفلة الصغيرة التي وبخت جندي إسرائيلي صارخةً في وجهه قائلاً: "بنت صغيرة كتير بهدلتو للجندي الإسرائيلي! وهو ما عرف شو يرد عليها".

إقرأ أيضاً: أوقع العدو الإسرائيلي بفريسته وكانت الفريسة الباسل
وعن مجازر الدم وحرب غزة عام 2014، يقول حسين ضاحكاً: "إيه ما وقتا خسرت البرازيل 7-1" مستكملاً: "كنا نشاهد المباراة ولم نكن نعرف ما يحدث في غزة، وبعدها عرفنا وانصدمنا"، وفجأة انقلب مزاحه إلى غصة، صمت قليلاً ودمعت عيناه وسط إحمرار وجهه، ولم يعد قادراً على الكلام استذكر مشاهد الدم خافضاً رأسه نحو الأرض، وعندما سألته هل تريد أن نتوقف هز برأسه "نعم". وانتقل المشهد إلى الأطفال الثلاثة الصامتين العاجزين عن النطق بينما عيونهم قالت "ما أبشعه هذا العدو، ما أبشع جرائمه".
حاولتُ تغيير الموضوع كي أعيده إلى جو الفرح مجدداً متسائلةً ماذا فعلتم عندما ربح المشترك الفلسطيني يعقوب شاهين في آراب أيدول؟ فصرخ الثلاثة معاً "كيفنا"، وبعدها دار حديث طويل بينهم عن أجواء البرنامج ليعطي كل واحد رأيه بالمشتركين واللجنة كأنهم لديهم خبرة طويلة في الفن. 
وعن أكثر أغنية فلسطينية وطنية مفضلة بالنسبة لهم، يجيب زياد بسرعة "علي الكوفية"، وعاد الإشراق على وجه حسين متمرداً على حزنه قائلاً: "لأ لأ مش علي الكوفية وين ع رام الله أحلى، بدي زور رام الله وبدي زور قبر أبو عمار". أما ابراهيم فيقول "بحب أنا دمي فلسطيني، لأن دمي فلسطيني" يقاطعه حسين غاضباً "إيه مش نجس متل هيدول الأعداء يلي وسخوا دمنا بقذائفهم، هول ما عندن شفقة".
ومن إنتصار يعقوب تسألهم عن إنتصارات المقاومة على العدو الإسرائيلي ليقول ابراهيم:
"انبسطت لما مرة شفت الشاحنة الكبيرة لي دعست الجنود الإسرائيليين، ومنحتفل هون لما بيقوم أي شهيد بعملية جهادية أوعملية طعن".
وعن أماني وطموحات الأطفال لبلدهم يقول حسين: "انشالله نرجع، ولشعب فلسطين بقلن قاوموا لأخر نفس، ولأسرائيل بقول عيب عليكم إنتو ما عندكم وطن عيب تسرقوا وطن غيركم، وبحب عيش بفلسطين وموت فيها لأن إذا متت فيها بكون متت شهيد، وإذا استشهدت بكون قتلت اسرائيلي ولو بالحجر والسكين". أما ابراهيم وزياد كانت رسالتهم مختصرة فقال ابراهيم لشعبه: "قاوموا عشان بلدنا"، أما زياد الصغير قال لعدوه: "بس أكبر جاييكن أنا".
وبعد الأماني كان هناك طلب من حسين وطموح من ابراهيم، فقال حسين: "بدي قصائد كتير عن فلسطين والمقاومة، وبدي قصص عن حياة مؤلفين وشعراء ومخترعين فلسطينيين". وطموح ابراهيم، أن ينضم إلى صفوف المقاومة عندما يكبر لمحاربة إسرائيل، أما زياد شرد وقال "أنا كمان متلن، بدي جيب السكينة والبارودة والقنابل وقوّس عالإسرائيلي".
وبعد طلب حسين، طُلب من الأطفال كتابة نص صغير عن فلسطين، حمل حسين وابراهيم أقلامهما وغاص الإثنان في الكتابة، ليبقى زياد حائراً لا يعرف ما يكتب لكنه مصراً على الكتابة ليقول: "فيني إكتب بالبيت وإختي بتساعدني"، ومع ذلك حاول أن يكتب ناظراً إلى الورقة الخالية وكتب أجمل ما يُكتب عن وطنه، كتب كلمة إختصرت جميع الكلمات، كتب "فلسطين".