مئة وستة أيام تفصل عن انتهاء ولاية المجلس النيابي في العشرين من حزيران المقبل، والقانون الانتخابي في خبر كان، وليس مأمولاً في ظلّ الانقسام المتحكّم بالمفاصل السياسية أن يبصر هذا القانون النور في المدى المنظور. يعني ذلك، أنّ كلّ يوم صار محسوباً، وكلّ يوم يمضي بلا قانون جديد، يعزّز احتمالَ الاصطدام بالأمر الواقع الذي قد يفرضه قانون الستين، الذي ما يزال يشكّل حتى الآن شرّاً لا بدّ منه، أو لا مفرّ منه.
 

هناك من يقول في غياب القانون الجديد: «قانون موجود في اليد ولا عشرة على الشجرة». وهذا يعني ضمناً إشارةً واضحة إلى استمرار سرَيان مفعول قانون الستين.

ربّما يقال هذا الكلام من باب المزاح، ولكن ما يجعله قابلاً لأن يرسخ في الذهن السياسي العام، هو أنّ كلّ الوصفات البديلة التي ألقيَت على بساط البحث سواء البحث الجدّي أو الإعلامي، فشلت في الانتقال إلى ضفّة التوافق على صيغة جديدة لقانون يترجم عدالة التمثيل وسلامتَه وشموليته جميعَ الأطراف بلا استثناء أو إلغاء أو إقصاء أو تحجيم. وما زال الفشل مستمرّاً!

إذاً الفشل قائم، ولكن مع وقفِ الإعلان حتى إشعار آخر. المشاورات مستمرّة وتجري ثنائياً وثلاثياً، هكذا يقال، ولكن بلا أيّ معنى وبلا أيّ أفق، والدولاب يلفّ ويدور حول نفسه، ولا تقدّم ولو قيد أنملة.

ولعلّ أصدق صورة عمّا آلَ إليه الحال، تلك التي يرسمها أحد الرؤساء بقوله: «يذكّرني حالنا بـ»حجّة زياد الرحباني»، التي تسأل دائماً: « شو... كيف هالحالة»؟ فيأتيها الجواب: «والله... ما حدا عارف شي من شي»!

تلك الصورة تتقاطع مع «كلام مسؤول» تسرّب أخيراً من إحدى الجلسات النقاشية حول القانون الانتخابي، وفيه:

- «كلّهم قالوا لا لقانون الستين، ولا بدّ من قانون جديد. ولكنّهم قالوا كلمتهم وصعد كلّ واحد منهم بـ»قانونه» على شجرة وتمسمرَ عليها. بينما الستين يَزحف علينا، وربّما ما هو أسوأ من الستين، وأمّا هم فعلى الشجرة يرفضون النزولَ عنها».

- «حتى لو نزلوا عن الشجرة، فكيف سيَركب «البازل الانتخابي»، أمام مجموعة تناقضات لا تلتقي، وغايات ومصالح متضاربة، وأمام عقل سياسي لا يرى المعركة بأنّها معركة انتخابات نيابية بقدر ما يراها معاركَ داخلية ضمن الفريق الواحد والطائفة الواحدة، معارك يريدها البعض اجتياحية لطوائف أو مذاهب معيّنة.

طرفٌ يريد اجتياحَ الطائفة السنّية ولا يريد فيها مكاناً للسنّة الآخرين ممّن هم خارج حزبه أو تياره السياسي، وطرف آخر يريد اجتياح الطائفة الدرزية ولا مكان فيها لغيره، وطرف ثالث يريد أن يجتاح الشارع المسيحي ويمحوَ أثرَ مَن هم خارج إطار الثنائية المسيحية المستجدّة. فيما الطرف الشيعي نائم على «السبعة ونص»، ومطمئنّ لتفوّقِه على كلّ ما عداه ضمن الطائفة.

والأنكى من كلّ ذلك أنّ بعض هؤلاء الاطراف لا يكتفي بمحاولة اجتياحه ساحتَه أو طائفته أو مذهبه، بل يريد أن يغلِّب رأيه وتوجّهه وما يناسبه وحده على كلّ الآخرين. يعني هو فقط ومِن بعدِه الطوفان. وعندما تُعارضه يصنّفك في خانةِ الأعداء له»؟!

- إنّ الانسداد المستحكم بمسار إعداد القانون الانتخابي، مضافاً إليه أداء بعض القوى السياسية، يدفع إلى الترحّم على أيام الوصاية السورية، في تلك الفترة كان البلد تحت وصاية واحدة هي وصاية غازي كنعان ورستم غزالي، يرسمان ويقرّران ويَصوغان قوانين انتخابية وغيرها على طريقة كن فيكون، وكان البلد مسلّماً أمرَه لها.

وأمّا اليوم فمن يعلنون يومياً أنّهم ضد تلك الوصاية، بل ويلعنونها صبح مساء، يحاولون وبلا خجل أن يكرّسوا وصايات من نوع آخر:

* وصاية، بالأداء الفوقي والجنوح نحو السيطرة والتحكّم.

* وصاية، عنوانها «أنا ولا أحد غيري»، ولم تخفِ يوماً توجّهها الإلغائي لكلّ ما عداها في شارعها وطائفتها.

* وصاية، تعالج الضررَ بضرر أكبر، تتوخّى الهيمنة بثلثٍ معطل على المجلس النيابي المقبل، وبثلثٍ معطل وأكثر على الحكومة التي ستتشكّل بناءً عليه.

وهو ما أحدثَ أكبر من «نقزة» لدى مكوّنات أساسية شعرَت أنها أمام «غول» يحاول أن يبتلع الدولة، الأمر الذي دفعها إلى رفع الصوت والتحذير سرّاً وعلناً من خطورة هذا المنحى.

* وصاية، فتحت عمداً بازارَ رئاسة الجمهورية باكراً وقبل أن يبدأ العهد انطلاقتَه فعلياً، وتحاول أن تبني قاعدة لثنائية متجدّدة، غايتُها ليس فقط قطع الطريقِ على ايّ مرشّحين خارجها، بل الوصول الى مجلس نيابي يشكّل جسرَ عبور سهل لأحد طرفيها الى رئاسة الجمهورية وخلافة الرئيس ميشال عون.

* وصاية، تنسى المبدأ القائل إنّ سلامة الشعب اللبناني كلّه هي الأسمى، وسلامة الوطن والكيان هي ما فوق الأسمى، أي أسمى من قانون الانتخابات، الذي هو في الاساس لخدمة لبنان، وليس لبنان كلّه وشعبه في خدمة القانون ومصالح بعض السياسيين.

* وصاية، لا تملك حلّاً بديلاً، أو بالأحرى حلّاً وطنياً شاملاً وعادلاً، وتَستسهل الحديث عن مؤتمر تأسيسي، وكأنّه مؤتمر صحافي، ومتجاهلةً استحالة بلوغه والأكلافَ التي قد تترتّب، أو ستترتب عليه حتماً إنْ دخلَ البلد في هذه المجازفة.

* وصاية، لا يهمّها إنْ وصَل البلد الى 20 حزيران بلا قانون انتخابي جديد وبلا انتخابات نيابية،  ولا تعبأ بأن لا استمرارية لمجلس النواب بعد هذا التاريخ، ذلك انّ هذه الاستمرارية مبنية على الوكالة التي يَمنحها الشعب على مدى الولاية القانونية للمجلس. ومعنى ذلك الوقوع في المحظور، أي في الفراغ.

* وصاية، شربَت معنويات من الواقع السياسي الذي استجدّ مع العهد الجديد، فأشعرَت الآخرين بالقلق منها، ومن الأهداف التي تُبيتها. ولا فرق عندها إنْ دخلَ البلد في فراغ أم لا، ورُبّ قائلٍ من أصحاب المعنويات المرتفعة إنّ الفراغ قد جُرِّب سابقاً، رئاسة الجمهورية استمرّ فيها الفراغ لسنتين ونصف ومع ذلك استمرّ البلد ومن ثمّ عاد الى مساره الطبيعي بانتخاب رئيس الجمهورية.

يتناسى هؤلاء أنّ مجلس النواب هو أمّ السلطات كلّها، وإنْ سَقط في الفراغ تسقط معه كلّ السلطات. ثمّ لنمشِ مع اصحاب هذا الرأي، إذا كان القصد من إيقاع البلد في الفراغ المجلسي هو الهروب من التمديد لمجلس النواب، ومن قانون الستّين، فقد ينجح الهروب من التمديد، لكنّه في المقابل يُبقي على الستين نافذاً، فكيف ستُنتج قانوناً انتخابياً في غياب التشريع المجلسي؟ مختصَرُ الأمر هنا أنه إنْ تقرّرَ - بطريقةٍ ما- إجراء الانتخابات ما بعد الفراغ، فلا مفرّ من قانون الستّين كأساس لها لأنه لا بديل عنه.

خلاصة «الكلام المسؤول» في جلسة النقاش الانتخابي «في هذا الجوّ الانقسامي، لا يمكن أن يركب البازل الانتخابي، صِرنا نخجل من الناس عندما نقول إنّ المشاورات تجري والأجواء منفتحة ومشجّعة.

يجب أن نعترف بأنّنا فشلنا وبأننا كلّنا في مأزق، وبأننا لسنا أبرياء من دم القانون الانتخابي. رأينا المأزق أمامنا فرَمينا أنفسَنا فيه ودخلنا عن سابق تصوّر وتصميم في لعبة حافة الهاوية وها نحن نوشِك أن نسقط فيها إلى القعر، وساعتئذ لن ينفعَ ندمٌ ولن نجد من سينتشلنا، نحن في هذا المسار الذي نَسلكه ذاهبون إلى جهنّم وبئسَ المصير»!

أمّا خاتمة هذا «الكلام المسؤول» فجاءت بطرحٍ طريف مفادُه: كلّهم يدورون ويلفّون حول الستين، والجوّ العام يوحي حتى الآن بأنّ كلّ الدروب تؤدّي إليه. وإذا كانت العقبة تتبدّى في أنّ اسمَ «الستين» صار اسماً نافراً، فليس شيء يَمنع من أن نُدخلَ تعديلاً بسيطاً، إذ بدل اسمِ قانون الستين نسمّيه قانون السبعين، فربّما في هذا التغيير تحَلّ المشكلة؟!