بالأمس، كان الرئيس نبيه بري في طهران مشارِكاً رئيسياً في مؤتمر دعم الشعب الفلسطيني، وكان له خطاب حمل فيه قضية فلسطين وطرق الأبواب العربية والإسلامية داعياً الى إبقائها في الوجدان العربي والإسلامي كنقطة جمع والتقاء، وقبل كلّ شيء طرق الباب الفلسطيني بنصيحة الى الأخوة: توحّدوا لكي لا تُؤكَلوا.
 

عاد برّي من إيران، مرتاحاً لأجواء المؤتمر، وللتظاهرة المتعددة الجنسيات التي التفت حول فلسطين التي كادت تصبح منسيّة... عاد على أمل أن يلقى خطابه المدروس صدى في هذه الصحراء القاحلة، يوازي أهمية ما ورد في الخطاب لناحية إعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين والتوحّد حولها، وخصوصاً من قبل أبنائها.

لكنّ هذا الارتياح لم يكتمل، بل نغّصته صورة أشعرته بالقلق، وربما أكثر، وحملته على رسم علامات استفهام كبرى حيال الاشتعال المفاجئ والخطير لمخيم عين الحلوة.

هو اشتعال مريب وخطير في توقيته، إذ إنّ جهات معيّنة داخل المخيم وخارجه، تصرّ على إيقاد النار تحت برميل بارود، لا يهدّد انفجاره المخيم فقط، بل يهدّد بامتداد ناره الى كلّ الجوار، ويفتح الباب على احتمالاتٍ خطيرة.

خلال السنتين الأخيرتين، وضع بري الى جانب أولوياته اللبنانية، أولوية فلسطينية رمى فيها الى تحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً بين "فتح" و"حماس"، وتمكّن من جمع الطرفين معاً في عين التينة وطرح أفكار المصالحة ومن بينها عقد طاولة حوار فلسطيني. وما زال ينتظر.

لا خلاف على أنّ واقع الحال الفلسطيني ليس سليماً، وسبق لبري أن حدّد المسؤولية، وله عبارة شهيرة في هذا المجال "فلسطين وحّدتنا... ولكن عندما تناسيناها وقعنا في الفتن والقبلية". ليس سرّاً أنّ العرب والفلسطينيين ليسوا أبرياء من هذا التناسي.. وها هي أزماتهم تتوالد وتكبر وتستعصي على العلاج؟

قبل الذهاب الى مؤتمر طهران، كان برّي قد دخل في فترة نقاهة جراء عملية جراحية طارئة، والعنوان الفلسطيني للمؤتمر ورمزيّته شديدا الأهمية بالنسبة اليه، ولذلك قطع "النقاهة" رغم أنها تتطلّب أقصى درجات الراحة والهدوء ومغالبة الأمصال والمضادات الحيوية وتأثيراتها، قرّر أن يشارك شخصياً.

وعندما وصل بري الى إيران فوجئ بعض المؤتمرين، ولم يصدّقوا أنه حضر، فيما أكبر فيه آخرون هذه المجازفة. أصرّ على الحضور ليُسمعَ صوته ويقول كلمته ويشهد أنه قد بلّغ، تبعاً لقراءته للمشهد الإقليمي والدولي ومخاطره العابرة لكلّ المنطقة، وللمشهد الفلسطيني وما يتهدّده في ظلّ ما تسعى إسرائيل الى تحقيقه على عين العالم كله دون رادع أو وازع، لا بل بتشجيع موصوف، وها هي "الترومبية" المتربِّعة على رأس الإدارة الأميركية الجديدة، تحاول رسم شرق أوسط على المقاس الإسرائيلي، وسبقت قادة إسرائيل بالتلويح بإجراءات أكثر تشدّداً من الإسرائيليين أنفسهم، والمثال إعلان دونالد ترامب عزمه نقل السفارة الأميركية من تل ابيب الى القدس.

القيادة الإيرانية تعاطت مع بري كضيف مميَّز، وقاربت خطابه، كمبادرة جريئة تكاملت في مضمونها مع خطاب المرشد السيد علي خامنئي، وجرى التعبير عن ذلك من رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، ثمّ من الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني الذي قال لبرّي في اللقاء بينهما، ما مفاده: "نقدّر عالياً خطابكم الثمين، وحرصكم على فلسطين".

في الشق اللبناني من اللقاء، إيران ليست بعيدة من التفاصيل اللبنانية، وهنا توجّه روحاني الى بري بالآتي:

- إيران مرتاحة للمسار السياسي في لبنان.

- إيران حريصة على أفضل علاقات أخوة وصداقة مع لبنان، وتعزيز هذه العلاقة لمصلحة البلدين. وتنظر الى كلّ أبنائه بكلّ تقدير، وهي كانت وما زالت تقف مع لبنان وستقف الى جانبه دائماً في وجه كلّ ما يتهدّده، لأنها مع لبنان آمناً وهادئاً ومستقراً، وهذا يتأمّن بوحدة اللبنانيين، التي تؤمّن الحصانة لهم والمناعة لبلدهم في وجه الأخطار التي تتهدّده وتتهدّد المنطقة والمتمثلة بالخطرَين الإسرائيلي والتكفيري.

- نحن معكم يا دولة الرئيس ونحترمكم. ونحن نعرف حجمَ الموقع الذي تمثلونه (سواءٌ على المستوى الشيعي، أو على المستوى الوطني، أو على المستوى السياسي، أو على مستوى رئاسته للسلطة التشريعية) ونعرف حجمَ الدور الذي تلعبونه وبالتأكيد نحن نقدّر هذا الدور ونقدّر سعيكم الدائم لتكونوا نقطة جمع وتلاق للبنانيين، ومن أجل حماية لبنان ومحاولة مدّ الجسور بين الأطراف اللبنانيين لتحقيق كلّ ما يصون بلدكم.

عكس كلامُ روحاني أنّ الإيرانيين يعرفون بري حق المعرفة، كشخصية رسمت دورها تحت سقف الوطن، وتحت عنوان المقاومة، سياسي بارع يمتاز بفكر سياسي متقدم ومعتدل، وحواري صابر وصلب في أقسى المحطات، وخصوصاً في حرب تموز 2006 والمفاوضات المضنية التي أدارها (التي أدت الى القرار 1791).

قال الإيرانيون صراحة إنّ بري شخصية "كاريزماتية" قادرة على ابتداع الحلول وإيجاد المعابر والمسالك وسط حقول الألغام، وعلى إطفاء الحرائق وضبط الإيقاعات السياسية والبوصلة على هدف وحيد هو الحوار والتفاهم.

لطالما تمنّى بري أن يملأ التفاهم فضاء العلاقات العربية الإيرانية. ومن هذه الخلفية استفسر من الرئيس الإيراني عن علاقات إيران بالعرب
وتحديداً بدول الخليج، فأكد روحاني بدايةً حرصَ إيران على علاقات جيدة مع كلّ دول الجوار، وفي مقدمها دول الخليج، مشيراً الى أنّ الزيارتين اللتين قام بهما الى كلّ من الكويت وعُمان، تنطويان على رسالة شديدة الوضوح بأنّ إيران لا تقفل الأبواب بل هي راغبة بالعلاقات وبالانفتاح.

استفسر برّي عن الأزمة السورية فعكس روحاني تفاؤلاً بأنّ الأمور لا بدّ أنها ذاهبة في نهاية المطاف نحو الحلّ السياسي. وما يمكن قوله إنّ السنة الماضية كانت اسوأ من السنة الحالية، والسنة الحالية أكيد أنها ستكون اسوأ من السنة المقبلة... هذا التدرّج الإيجابي يعزّز الأمل بأنّ الأمور سائرةٌ في هذا الاتجاه.