في مشهد مُعبّر من قصة الحضارة لويل ديورانت، استدعى حاكم هنغاريا "لاديسلاس الخامس" الكاردينال "جوليانو شيزاريني"، وكان نائباً للبابا في منطقته، ليتناقش معه في أمر حروبه مع العثمانيين أثناء اشتداد حدة الغزوات التي شنّها الأتراك على أوروبا في القرن الخامس عشر، فأشار عليه الكاردينال بكسر اتفاق السلام الذي أبرمه مع السلطان العثماني على اعتبار أنه من الجائز دينياً أن يتراجع المرء في وعوده إذا كان "قد أعطى وعداً للكفار من غير المسيحيين".
 

ملحوظة عابرة كهذه من التاريخ ربما تعطي درساً عن علاقة الدين بالسياسة، وكيف من الممكن أن يحوّل الأول نصوصه ومقدساته لخدمة الأخير، والأمر نفسه قد حدث مراراً على مدار التاريخ الإسلامي وبطرق مختلفة.

جزء مهم من الرواسب الدينية التي تحتاج إلى تنقية وتجديد نتج عن تأثير السياسة في المعتقد عبر التاريخ الإسلامي، مما جعل من بعض الأفكار التي كان مصدرها في الأساس صراعاً أو خلافاً سياسياً تقدم نفسها اليوم باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المعتقد.

الخلافة

قدم "الشيخ علي عبد الرازق" في أوائل القرن العشرين كتاباً جديداً في طرحه سماه "الإسلام وأصول الحكم" وحاول فيه أن يثبت بطرق شتى أن فكرة الخلافة ليس لها أساس في القرآن الكريم أو السنة النبوية مما ينتج عنه أن هذه الفكرة سياسية دنيوية بالأساس، لكنها أخذت طريقها في وقت مبكر إلى متون كتب الفقه والتراث والتاريخ باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من هوية الإسلام.

وتحدى عبد الرازق بطرحه عدداً له وزنه من الأئمة والمفسرين الأوائل الذين كوّنوا إجماعاً حول الرأي المناقض لوجهة نظر الشيخ.

يبدأ عبد الرازق بتفنيد التفسيرات التي استند إليها الأئمة الأوائل لبعض آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وينتهي إلى أن ما ساقوه من تفسيرات حول وجوب الخلافة في الإسلام ليس عليه دليل كافٍ، ثم ينطلق إلى الجدال في أن "أبا بكر الصديق" حينما تولى الحكم بعد وفاة الرسول رفض القول بكونه خليفة لله وصدق على كونه خليفة للرسول.

إلا أنه يجادل أيضاً في أن النبي لم يُرسِ في عهده أي تصور عن شكل الحكم في الإسلام، وكل الروايات التي وردت عن تعيينه قضاة أو ولاة فيها اضطراب بالشكل الذي لا يسمح لنا باستجلاء هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي لنقول إن النظام الذي أرساه النبي كان هو بعينه نظام الخلافة لا غيره.

ويدفع بأن الرسول لم يكن ملكاً إلى جوار كونه نبياً، إنما كان نبياً وصاحب رسالة ليس إلا، وهو التصور الذي كان يدرك أن السواد الأعظم من المسلمين سيخالفه الرأي فيه خاصة في ذلك الوقت، وهو يعلل ذلك بأن الدور القيادي الذي تولاه الرسول في الدولة الإسلامية التي نشأت على يده لم يكن إلا ضرورة من ضرورات الرسالة ولم يكن بأي حال دوراً سياسياً.

بذلك يهدم عبد الرازق الصورة النمطية عن كون الإسلام ديناً ودولة معاً، أو أن هناك نظام حكم بعينه أتى به الدين، فيصبح المجال مفتوحاً بحسب عبد الرازق للاجتهاد في أمور السياسة حسب ما تمليه المصلحة وضرورات العصر.

يقول عبد الرازق في معرض كتابه: "كان من مصلحة السلاطين أن يروجوا ذلك الخطأ بين الناس، حتى يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم، وما زالوا يعملون من ذلك بطرق شتى، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله".

حرب الردة

يشير "علي عبد الرازق" في الكتاب نفسه إلى أن حرب الردة التي قادها الخليفة الأول "أبو بكر الصديق" وأبيحت فيها دماء مَن وصفوا بالمرتدين في ذلك الوقت، كانت سياسية في الأساس، ويدفع بأن الكثير جداً ممن وجهت إليهم سهام الحرب لم يكونوا مرتدين عن الإسلام إنما نشب الخلاف في الأساس حول مَن امتنعوا عن أداء الزكاة في ذلك الوقت، والكثيرون منهم كان امتناعهم عن تقديم الزكاة تعبيراً عن رفضهم لشخص الخليفة، ومنهم من كانوا من الصحابة. ويزج عبد الرازق خلال عرضه ذاك ببعض الروايات، منها رفض عمر بن الخطاب هذه الحرب.

لكن باحثاً آخر هو "د. مصطفى عبد الرازق" الذي تولى مشيخة الأزهر في بدايات القرن العشرين أيضاً يقدم في كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" رواية بليغة يتضح فيها تحول المنزع السياسي إلى فكرة تكاد تحتل مكان المعتقد الديني.

ففي حديث دار بين "عمر وأبي بكر"، اعترض الأول على قتل المسلمين في حرب الردة دافعاً بحديث شريف هو "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم" فيرد الصديق عليه: "أليس قد قال "إلا بحقها" ومن حقها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فوالله لو منعوني عقالاً مما أدوه إلى النبي لقاتلتهم عليه"، وهو ما وصفه المفكر "د. علي مبروك" باعتباره أصلاً لما حدث بعد ذلك من خلاف في الإيمان والإسلام وتضمنهما للعمل أو عدم تضمنهما له، تلك المسألة التي عرفت في علم الكلام بقضية الإيمان والعمل.

الفتنة الكبرى ونشأة المذاهب الإسلامية

في كتابه "النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ" يقدم المفكر المصري "د. علي مبروك" فصلاً خاصاً عن نشأة المذهب الشيعي وهو يرجعه بالكامل إلى منشأ سياسي أخذ بعد ذلك إطاراً معتقدياً صارماً، لذلك فهو يعود إلى تحليل التاريخ مرة أخرى بداية من اجتماع "سقيفة بني ساعدة" الذي تحدد فيه من سيمسك بزمام الأمور بعد وفاة النبي وصولاً إلى أحداث الفتنة الكبرى.
بدايةً، يشدد "علي مبروك" على أن فكرة الإمامة بمعناها الموجود الآن في المذهب الشيعي لم تظهر إلا بعد زمن غير قليل من الفتنة الكبرى، وبالتحديد في عهد الإمام "جعفر الصادق"، وأن التصور عن فكرة الإمام المعصوم من الله والذي يأخذ العلم مباشرة عنه ثم يورثه بالوصية لإمام آخر من بعده، لم تكن موجودة في عهد النبي ولا في عهد الخلفاء الراشدين.
لكنها نشأت نتيجة للخلاف السياسي الذي انقسم فيه أصحاب الحل والعقد منذ سقيفة بني ساعدة بين مناصرين لأن تكون الخلافة لشخص من قريش، على اعتبار أنهم قبيلة النبي وأوسط العرب أنساباً، وبالتحديد لأسماء كانت تشكل الطبقة العليا من قريش، وبين الذين أرادوا أن يحصروها في آل النبي وأصابعهم تشير لعلي بن أبي طالب على اعتبار أن الرسول وآله من بني هاشم كانوا فقراء وأن الإسلام جاء لنصرة الفقراء، وبين فريق ثالث طالب بتنصيب الخليفة من الأنصار.
ويضيف مبروك إلى ذلك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل كانوا أصحاب فضل في التاريخ الإسلامي، إلا أنهم كانوا من الطبقة الأرستقراطية القرشية وترشيحهم تم بناءاً على ذلك التفضيل وهو منبت الخلاف من الأساس.
ويشير إلى أن الذين ناصروا علياً انتظروا خلافة بعد أخرى حتى حانت لحظة توليه الخلافة، لكنهم فوجئوا باعتراض عارم من قبل أصحاب السيادة الذين تمثلوا في بني أمية، ثم خروج جيش من المعترضين أخذوا في التاريخ لقب "الخوارج".
ويلفت إلى أن أنصار علي كانوا كلما انتفضوا وحاولوا الدفاع عن مقصدهم توالت عليهم الهزائم والاضطهادات مرة تلو المرة، إلى أن انكفأوا على ذاتهم وحوّلوا جهودهم تجاه المعتقد، فنشأت المذاهب والفرق الإسلامية.
ويعتبر مبروك أن كل الخلافات السياسية في التاريخ الإسلامي، خاصةً المبكر منه، كانت تنحو لأن تأخذ طابعاً دينياً، وأن كل فرقة من الفرق المتناحرة أو حتى تلك التي تحاول أن تقف على خط الحياد، كانت جميعاً تغلف خلافاتها بكسوة دينية تنحو في معظم الأحيان إلى تكفير المخالفين.
وبرغم أن الخلافات السياسية انقضت ومر عليها التاريخ وكادت أن تنسى، إلا أن تراث هذه الفرق الدينية بما فيه من تأثير للسياسة بشكل أو بآخر، كان أكثر صلابة وبقاءاً وقدرة على الانتقال عبر الزمن.
والآن حين تتناول بعض هذه العقائد دفاعاً عنها أو إنكاراً لها، فإننا لا ننتبه إلى أصولها السياسية. فبعض هذه العقائد أفرزتها الفرق المغلوب على أمرها في مجال السياسة كالشيعة وغيرهم، تعويضاً عن مكانة لم يحققوها على أرض الواقع في السياسة بالانتقال إلى مكانة أخرى في مجال المعتقد.
فشيعة علي بن أبي طالب التي لم تتمكن من تحقيق الخلافة لعلي وبنيه، أسبغت عليهم من القدسية ما فاق مكانة الرسول محمد في بعض الأحيان.
الحاكمية في الإسلام

ربما يقود هذا الأمر إلى الحديث عن نشأة مفهوم الحاكمية في الإسلام، وكان أول من نطق به في التاريخ الإسلامي هم الخوارج، والحاكمية تتلخص في عبارة "إن الحكم إلا لله" التي واجه بها الخوارج علي بن أبي طالب مراراً رغم أنهم كانوا من جيشه وانقلبوا عليه، ثم استعملوها في معارضة خلافة معاوية وبنيه.

ويذهب "الإمام محمد أبو زهرة" في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية" إلى أن غالبية الخوارج كانوا من بدو الربع وكانوا في قرارة أنفسهم ناقمين على إمساك قريش بزمام الخلافة. ويشير إلى أن هذه النقمة كانت السبب الرئيسي في سيطرة هذه الجملة على مجال عملهم السياسي والحربي.
وعلى الرغم من ذلك، فقد نادى الخوارج بضرورة انتخاب الخليفة انتخاباً حراً من عامة المسلمين، ومع أن هذا كان يعد حدثاً فريداً من نوعه في التاريخ الإسلامي فإنه يناقض تماماً دعواهم بالحاكمية، التناقض الذي قد يرجح التخمين بمنشأ هذه الفكرة السياسي.
أدت الاعتبارات السياسية نفسها إلى نشأة مذاهب كلامية مثل المرجئة والمعتزلة في تاريخ لاحق، كمحاولة للوقوف على خط الحياد من الحرب السياسية التي أخذت طابعاً دينياً، خصوصاً في مسألة مرتكب الكبيرة التي أثارها الخوارج وهل هو مؤمن أم كافر، وهو الأمر الذي يرجحه "علي مبروك"، على الرغم من أنه يرجع مذهب الحاكمية في صيغته المكتملة إلى فكرة الكسب عند أبي الحسن الأشعري.
المصحف والقرآن الكريم

يميز محمد أركون في كتابيه "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" و "قضايا في نقد العقل الديني" بين مصطلحي "القرآن الكريم" باعتبار أنه هو النص الشفهي الأول الذي تلاه جبريل على النبي ثم تلاه الرسول على عامة المسلمين للمرة الأولى، وبين "المصحف الشريف" باعتبار أنه النص المكتوب الذي أخذ بعد ذلك عن ألسنة الحفظة من أجل التدوين والتوثيق.
ويدفع محمد أركون اعتماداً على عمله في حقول علوم الألسنيات والأنثروبولوجيا إلى أنه لا يمكن التسليم بأن يكون القرآن الكريم الشفهي في الأساس هو نفسه الذي تم تدوينه كاملاً بدون زيادة أو نقصان في المصحف الشريف من دون الشك في قدرة الذاكرة البشرية للحفظة من جهة، ومن تأثير السلطة السياسية التي جمعت تحت إمرتها النصوص المقدسة.
وهو بهذا الرأي يفترض تأثير الرغبة السياسية حتى في جمع أهم النصوص التي ترتكن عليها دعائم الإسلام. وبناءاً على ذلك فهو يدعو، انطلاقاً من هذه النقطة، إلى قابلية النص الكتابي للنقد والتحليل على أسس العلوم الحديثة في التأويل واللغة والثقافة كما يتم التعامل مع أي نص بشري آخر، وهو ما سمي بحسب محمد أركون بـ"أنسنة النص القرآني".