"الخطاب ضعيف"، ردّد أكثر من صديق. منهم الكاتب العتيق، ومنهم الناشط اليافع، ومنهم المتابِعة الرصينة. "كان يجب أن يكون أكثر تعبوية"، أضافوا كما لو بلسان واحد: "نحن على أبواب انتخابات، ويجب رصّ الصفوف السنيّة".
 

وحين يسمع الواحد الرأي نفسه أكثر من مرّة ومن مصادر متعدّدة، تكبر قابليته على الاقتناع وتصير أسهل. هذه هي البروباغندا في واحدة من تجليّاتها اليومية. أن يتفق أكثر من مصدر على فكرة أو رأي، ويصير تعميمها سهلاً وطيّعاً.
 

لكن أين هي مكامن القوّة لدى آخرين، مقابل "ضعف خطاب" الرئيس سعد الحريري؟
 

بسهولة، فتحت التلفزيون بعد تلك المحادثات المتتالية. جمهور حركة "أمل" يحاصر مبنى قناة "الجديد" في وطى المصيطبة داخل بيروت. وئام وهّاب يغرّد عن حقوق الدروز. قناة "المنار" تهلّل لقتل المزيد من السوريين، على أيدي شبّانها "الأقوياء". مسيحيون غاضبون لتحطيم تمثال مار شربل في دير الأحمر. ومحلّل سياسي يتحدّث عن "عودة المسيحيين إلى السلطة بقوّة".
 

"ما هذا الجنون؟"، سألت، فأجابوني كما لو بصوت واحد، بعد انتهاء المحادثات، بأصواتهم التي في رأسي: "هذه هي القوّة".
 

هو الجنون إذاً ما بات "قوّة" في لبنان هذه الأيام. أن تحرق مبنى محطة تلفزيونية هو قوّة. أن تغرق في ارتداد مذهبيّ على تويتر، وتخرج نهاراً لتكون "وطنياً"، هذه قوّة. أن تقتل جيرانك في بلد قريب لأنّهم غضبوا من حاكمهم، وأيّ قوّة أكبر؟ أن تدّعي "اللبنانية" وتتوسّل مذهبيتك، وحين تجلس على الكرسي تنادي بحقوق جزء صغير من شعبكَ. هذه قمّة القوّة.
 

هذا ما ليس عليه خطاب سعد الحريري. لم يتحدّث عن أهل السنّة. شبّان وشابات معدّل أعمارهم ثلاثين فقط، هم أعضاء مكتب تيار المستقبل السياسي، وأعضاء المنسقيات، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن البقاع وبيروت وكلّ المناطق. صبايا وشبّان يلبسون الزيّ المدنيّ، ويحملون ألسنة مدنية، وعقولا تنظر إلى التعايش والمستقبل، كلّ واحد ألقى كلمة لا تزيد مدّتها عن دقيقة، أو نصف دقيقة، أو 15 ثانية. تدريب عالٍ على تكثيف الأفكار والوقت والجهد. ورئيسهم، رئيس الحكومة، يتحدّث عن "إقفال صفحة الانقسامات وإنقاذ البلد والدولة والمؤسسات".
 

هذا هو الضعف؟
 

في لحظة الناشطون "المدنيون" من أصول درزية يحاضرون عن حقوق الدروز على فيسبوك، ويتحدث الشباب الشيعي عن "انتصارهم" على الشعب السوري، وينهمك الشباب المسيحي في إحصاء الانتصارات الضيّقة في هذه الإدارة وتلك الوزارة وفي قانون الانتخاب، ويغرق بعض الشباب السنّي في تنظيمات تكفيرية تدميرية.. في هذه اللحظة يخرج الرئيس الحريري بأصوات آلاف الشبان والشابات، ليرفض من يقول باستحالة "المصالحة بين حقيقة اغتيال والدي وبين حلمنا بالمستقبل". يضع دماء والده جانباً، ويدعو الآخرين، ومنهم مشاركون في جريمة القتل، إلى بناء لبنان.
 

هذا هو الضعف.
 

ما هي القوّة؟ أن يحرّض مذهبياً؟ أن يلبس مناصريه البدلات العسكرية ويرسلهم إلى الموت؟ أن يشارك في اغتيال الاقتصاد وتفقير الناس، لتصير الحرب أهون من السلم؟ أن يقف في الطريق الجديدة ويهتف: "دمّ السنّة عم يغلي غلي"، أو أن يذهب إلى طرابلس ويقصف جبل محسن، ويفجّر المدينة على أهلها مقابل نشوة القوّة؟
 

هذه هي الحقيقة: حين تختلّ موازين القيم، وهي أكثر ما تختلّ في الأزمات السياسية والعسكرية والمالية، يبتكر كلّ فصيل أو مجموعة منظومة أخلاقية على قياس غرائزها المذهبية أو أنيابها المتعطّشة للدماء، أو زعرانها الفالتين على كلّ مختلِفٍ، حينها يصير أمثال سعد الحريري ضعفاء. وهذه هي قوّته الحقيقة، التي قد لا ينتبه لها كثيرون الآن، لكنّها ستبدو واضحة في مستقبل قريب جدّاً.
 

قوّته أن يكون "ضعيفاً" في التعبئة المذهبية والطائفية، و"ضعيفاً" في استثارة الغرائز، و"ضعيفاً" في الاعتداء على المختلفين، "ضعيفاً" في الانجرار إلى الحرب والحقد والتدمير... ضعيفاً مثل سنيّ وحيد، قرّر ألا يفجّر نفسه.