الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ انْتَجَبَهُ لِوَلَايَتِهِ وَاخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِالنُّبُوَّةِ أَمِيناً عَلَى غَيْبِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ[1].
لا تزال المشكلة القديمة الجديدة التي تتفاعل على الساحة وهي الفتنة المذهبية القائمة على السبّ والشتم واللعن، وقد طُرحت قديماً في صدر الإسلام كمشكلة تحتاج إلى حلّ، وممّن تصدّى لحلّها أئمتنا (عليهم السلام) وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام).
فلم يزل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يربّي أولاده وأهل بيته وأصحابه وشيعته على أعلى مكارم الأخلاق وحميد الصفات ويحذّرهم من مساوئ الأخلاق وأن يتعالوا عن هذه السقطات التي لا تتناسب مع المؤمنين وتثير الأحقاد في المجتمع وتفكّك عرى الوحدة فيه.
وقبل الدخول في موقف أمير المؤمنين (ع) نشير إلى معنى اللعن في اللغة ومعناه في القرآن الكريم:
1- المعنى اللُّغوي للّعن
الحاصل من كلام أهل اللغة أنّ اللّعن على قسمين:
1- اللّعن من الله فهو الطّرد عن رحمته. وهذا مختصٌّ به سبحانه.
2- اللعن من الناس: فهو السبُّ، والشتم، والدعاء على الشخص.
فالنسبة بين السبّ واللعن العموم والخصوص من وجه.
2- مفهوم اللعن في القرآن الكريم
اللعن في القرآن يمكن أن يُنظَر إليه من أكثر من زاوية وحالة:
- الحالة الأولى: أن يكون بملاحظة اللاعن مَنْ هو، فهل هو الله أو الناس؟
فإن كان اللعن من الله فهو الطرد من رحمته وهو في حدِّ ذاته عذاب.
وإذا كان من الناس فيكون من باب الدّعاء على الغير ممّن يستحقّ العذاب وطلب الطرد من رحمة الله بأن يُبعده الله من الرحمة ويُنزل عليه عقابه.
- الحالة الثانية: أن ينظر إلى الآيات القرآنية الواردة في اللعن ويحاول أن يرى لها وجهاً جامعاً مشتركاً سواء كان من جهة اللاعن أو الملعون أو اللعن نفسه.
3- أوجه اللعن في القرآن الكريم
هنا ذكر المفسّرون أنّ اللعن في القرآن له أربعة أوجه حيث وردت آيات عديدة، قال الحيري النيسابوري المتوفّى 431 هـ في كتابه «أوجه القرآن»:
اللعن على أربعة أوجه- ثم ذكر الأوجه الأربعة واستشهد ببعض الآيات على كلّ وجه، ونحن ذاكرون تلك الأوجه مع زيادة بعض الآيات التي تتناسب مع كلِّ وجه-:
- الوجه الأول: العذاب
وفي هذا المعنى يوجد عدة آيات يظهر منها أنّه قد أُطلق اللعن وأُريد منه العذاب، منها:
1- قوله تعالى حكاية عن الكافرين: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة:88].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:159].
فَلَعْنُ الله لهم هو عذابه إليهم.
ولعن الناس الدعاء عليهم، كما سوف يأتي، فاللعن من الله يختلف عن اللعن من الناس.
3- قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[النساء:46].
4- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾[النساء:52].
5- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً﴾[الأحزاب:57].
6- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد:23].
7- قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾[النور:7]
8- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾[الأحزاب:64].
فاللعن في هذه الآيات بمعنى العذاب من الله لمن يستحقه من الكافرين أو الظالمين أو الكاذبين وليس للإنسان في هذا العذاب أيُّ شأن أو ممارسة، بل هو فعل الله. ما عدا الآية المتقدّمة تحت رقم 2 فإنّها اشتملت على لعنين: من الله ومن اللاعنين وسوف يأتي[2].
- الوجه الثاني للعن: الدعاء من الإنسان على غيره:
1- كقوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فإنّ المتلاعنين، كلُّ واحد يلعن الآخر، فاللعنة تنزل على مَنْ يستحقّ منهما.
2- قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾[الأحزاب:68].
3- قوله تعالى: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[هود:18].
4- قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾[المائدة:78].
5- قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف:44] فهذه الآيات كلّها في إطار الدعاء على مَن يستحقّ الطرد من رحمة الله سبحانه. هذا في اللعن بمعنى الدعاء.
أما اللعن بمعنى السبّ والشتم- كما ذُكر في المعنى اللغوي- الذي يتعارف عليه أكثر الناس ويستعملونه في محاوراتهم ومجادلاتهم وفي الفتن الدائرة بينهم، فمثل هذا اللعن لا وجود له في القرآن الكريم.
- والوجه الثالث للّعن: المسخ:
وهو يدخل بحال من الأحوال في العذاب فإنَّ المسخ في حدِّ ذاته عذاب وغضب من الله على بعض خلقه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾[النساء:47] أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وطردناهم بالمسخ [3]
- والوجه الرابع للّعن: الطرد من رحمة الله
وقد يكون هذا الوجه أوسع وأعم الوجوه حيث إنّ العذاب والمسخ يدخلان في هذا الوجه أيضاً وهنا آيات منها:
1- قوله: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾[الأحزاب:61].
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[البقرة:161].
3- قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[آل عمران:87].
فلعنة الله عليهم، هي طَرْدهم من رحمة الله، أمّا لعنة الناس والملائكة فهي الدعاء عليهم بأن يبعدهم الله عن رحمته..
4- قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة:13] أيّ طردهم من رحمته بالمسخ[4].
وكيفما كان فما كان من فعل الله، فإليه الأمر والنهي، ولا يجوز لأحد أن يتدخّل فيه، وما كان من فعل العبد الذي هو الدعاء على الغير فهذا الدعاء مرهون على حسب أسبابه، إمّا بكون المدعوّ عليه كافراً، كما في كثير من الآيات المتقدّمة، أو يدخل في عنوان الظالمين والمنافقين وغيرهم ممّن يستحقّ الدعاء عليه.
فاللعن المستعمَل في القرآن من جهة الناس، هو ما يصدق عليه دعاء على الطرف الآخر واستعمله بعضهم ضدّ بعض.
أمّا أنّ الدعاء على الآخرين هل يدخل تحت مطلق استحباب الدعاء أم له حالة خاصة فهذا ما يحتاج إلى بحثٍ وتدقيق.
والذي يظهر من جملة من الأخبار أنّ الدعاء على الآخرين، وإن كان جائزاً في نفسه مع وجود مبرّراته وأسبابه ولكنّه من ناحية أخلاقية يكون مرجوحاً، ويدخل عدمه في باب مكارم الأخلاق والعفو عن الآخرين، هذا إذا لم يتجاوز الداعي الحدَّ الشرعيّ، وإلا أصبح محرّماً ويكون الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً.
- الأسلوب القرآني الحكيم
لم يكن من أسلوب القرآن الحكيم أن يذكر أسماء مَنْ كان يتحدّث عنهم، أو نزلت الآية بسببهم، لا في جانب المدح والثناء، ولا في جانب الذمّ والتقريع، فكان القرآن الكريم حكيماً إلى أبعد حدّ، حيث لم يذكر أسماء الكافرين أو المشركين أو المنافقين أو الظالمين أو الأولياء إلاّ نادراً حتى في الأمم الماضية.
أمّا في هذه الأمة، ففي حالة المدح والثناء لم يُذكر بالاسم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله [5]، وفي جانب الذمّ ذُكر أبا لهب بكنيته وامرأته حمّالة الحطب.
وهذا الأسلوب الحكيم قد استعمله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله طيلة حياته إلى حدٍّ كبير، ولم يصرّح بالأسماء إلا نادراً خصوصاً في جانب الذم، وتبقى جملة كبيرة من الروايات التي نقلت لنا بعض الأسماء في مجالها الروائي الذي يخضع للتقييم والنفي والإثبات.
ومن بعده سار على هذا المنهج أئمّتنا، أئمّة أهل البيت (ع) طيلة حياتهم، وسيرتهم حافلة بكثير من الأمثلة والشواهد، وهذا السلوك هو من أفضل الأساليب العقلانيّة الحكيمة خصوصاً في طرح الأسماء التي تكون مورد النزاع في المدح أو الذم لدى الأمة. هذا كلّه إذا كان اللعن بعنوان الدعاء.
- المشكلة
وأما إذا كان اللعن بعنوان السبّ والشتم والتشفّي من الآخرين، كما هو المتعارف عليه عند الأطراف المتنازعة والمختلفة فكرياً وعقائدياً وطائفيّاً ومذهبيّاً وسياسيّاً وكلّ طرف يريد أن يتغلّب على الطرف الآخر وإسقاطه، ويستعمل اللعن كوسيلة من وسائل التغلّب، بل يستعمله كدليل من الأدلّة القمعية الاستفزازية الجارحة المؤذية للطرف المخالف له، فهذا ليس من القرآن في شيء.
وهذا ما تشهده الساحة الآن من التشنّج الطائفيّ والمذهبيّ وكلّ طرف يكيل للطرف الآخر الصاع صاعين؛ فبعض المتشدّدين المتعصّبين الجهلة من الشيعة يقابل أهل السنّة عموماً أو بعض رموزهم خصوصاً بمختلف الشتائم والسبّ والألفاظ القبيحة باسم اللعن الوارد في القرآن الكريم والسنّة النبوية وروايات أهل البيت (ع)، وقد تصل الحالة إلى حدّ التكفير، ولأنَّ بعض التكفيريّين من المحسوبين على السُّنة يقومون بالقتل الجماعي على الهوية، فهذا ما لا يرتضيه القرآن الكريم والسُّنة النبوية وسيرة أهل البيت (ع) بل هم بُراءٌ من ذلك جملةً وتفصيلاً.
كما أنّ بعض المتعصّبين والمتشدّدين الحاقدين ممّن ينتسب إلى أهل السُّنة يستعمل نفس الأسلوب المتقدّم وزيادة ويحكم بكفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم.
4- ما هو الحل؟
إنّي أتصوّر وبكلِّ تواضع أمام العلماء والمفكّرين، ومَنْ يهمّهم مصلحة الإسلام والمسلمين أنّ الحلّ:
1- أن يقوم العقلاء والعلماء والمفكّرون من كلِّ فريق فيما يخصّ مذهبهم وطائفتهم وينقدون ويكشفون ما فيه من سلبيّات وعيوب وتجاوزات على الأطراف الأخرى، ويضعون حدّاً لتلك السلبيّات التي تصدر من الأفراد أو الجماعات من تلك الطائفة، ويقدّمون ذلك خدمة للأمّة الإسلامية بدل التشهير والاتّهام للأطراف الأخرى التي تخالفهم.
2- أن يقوم كلّ فريق بتنقية تراثه من الشوائب التي أُدخلت عليه سواء ما كان فيه تحامل على المخالفين أم ما لم يكن.
وحسب خبرتي المتواضعة، فإنّه توجد مساحات واسعة لأهل السُّنة فيما لديهم من تراث فيه الكثير من التحامل على الشيعة وتكفيرهم والتحريض عليهم سبّبت في خلق أزمات وحروب لمئات السنين بينهم، وكذلك الحال لدى الشيعة، فتوجد مساحات واسعة في تراثهم لا تقلّ عن تلك المساحة عند أهل السُّنة في التحامل على أهل السُّنة والتحريض عليهم، وقد خلقت أزمات كبيرة وحروباً راح ضحيّتها الكثير من الطرفين.
3- تحديد المجرم من كلِّ فئة ومحاسبته خاصة دون تجريم وتحميل التبعات لكل الطائفة فلا يؤخذ البريء بذنب المجرم، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[الأنعام:164] وقال تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[الزمر:7] فلا بدّ من محاصرة الفئات التكفيرية من أيِّ فئة كانت وتمييزها عن غيرها ولا يعمّم فعلها على بقية أفراد الطائفة، فأهل السُّنة فئات متعدّدة، وكذلك الشيعة فئات متعدّدة، فلا يجوز تعميم فعل يصدر من فئة من السُّنة على جميع أهل السُّنة، أو فعل يصدر من فئة من الفئات من الشيعة على جميع الشيعة.
4- إنّ القيام بهذا العمل ووضع حدٍّ لمثل هذه التجاوزات- التي لا يرضى بها دين سماويّ ولا قانون وضعيّ ولا ضميرٌ إنسانيّ- وفضح الدسائس التي أُدخلت على تراثنا وعلى تاريخنا، لَهُو من أفضل القربات عند الله، فهم بذلك يقدّمون أعظم خدمة للإسلام والمسلمين وعزّهم وكرامتهم.
5- إنّي ومنذ سنوات عديدة عملت على هذا النهج وحاولت:
1- أن أدرس منهج أئمّة أهل البيت (ع) وأن أستضيء بنور هداهم بما قالوه أو فعلوه أو حثّوا عليه ودعوا أتباعهم إلى التمسّك به.
2- وأن أكشف بعض ما أُلصق بمدرستهم زوراً وبهتاناً والذي يتنافى مع القرآن الكريم ومعالي الأخلاق التي جُبِلوا عليها.
3- وأن أُبرز نقاط القوّة في سيرتهم وحرصهم على هذا الدين القويم والمحافظة عليه، وعلى وحدة المسلمين، وأن أقدّم في ذلك ما أتمكّن عليه خدمة للإسلام والمسلمين.
4- تتبّعت كثيراً من القضايا التي قد كانت متداولة لمئات من السنين وقد تكون مسلّمة لدى البعض وأبرزت ما فيها من خللٍ وعيب.
5- حاولت أن أُفَعّل بعض الروايات التي كانت مقصيّة، ومهمّشة ومُغيّبة لفترة طويلة من الزمن لأسباب سياسيّة أو مذهبيّة دينيّة معيّنة وقد تكون صحيحة السّند في نفسها وقد تكون هي الحلّ لمشاكل المجتمع في مثل هذه الروايات.
6- موقف الإمام علي (ع) من السبّ واللعن
إنّ من أهمّ الأسباب للفتن المذهبيّة والطائفيّة استعمال السبّ والشتم واللعن للطرف الآخر الذي تختلف معه عقائديّاً أو مذهبيّاً أو سياسيّاً كوسيلة من الوسائل تريد أن تحقّق أهدافك منه.
حاول البعض أن يشرعن السبّ والشتم واللعن الذي هو أحد مصاديق السبّ في الشريعة الإسلامية، وأن يلصق ذلك بقادته الميامين (ع) وأنّهم استعملوه ضدّ مَنْ خالفهم، وهذا ما لا يتناسب مع مقام بعض العلماء حتى يتناسب مع مَنْ مَدَحَهم الله في الذكر الحكيم وقال في سيِّدهم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4].
وقد تحدّثت عن ذلك لأكثر من مرة، وحاولت أن أعرض موقف أئمة أهل البيت (ع) وسيرتهم في ذلك كي تنجلي بعض الغشاوات.
وهنا أعود مرة أخرى لأعرض موقف أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين علي بن أبي طالب (ع) في بعض جوانبه وفي بعض كلامه دون جميعه.
حادثة وقعت في وقت الإعداد واستنهاض الناس للقتال في حرب صفين– كما يقول به البعض– وبعضٌ يقول إنّ هذه الحادثة وقعت أثناء الحرب والقتال وقد سمعها علي (ع) مباشرة، الحادثة رُويت بعدّة روايات وحاصلها أنّ بعض أصحاب علي (ع) تعرّض لمعاوية وأصحابه بالسبّ واللعن ولكن الإمام علي (ع) استنكر ذلك وقال إنّ هذا العمل غير ناجح ولم يكن أمراً صحيحاً بل النهج القويم أن تشرح أفعال مخالفيك ليتعرف الآخرون عليها مع الخلق الإسلامي.
حاولت أن أنقل هذه الحادثة برواياتها المتعدّدة لأهمّيتها ثم أعرض ما فهمه العلماء منها:
- الرواية الأولى:
فقد رَوَى نَصْرُ بن مزاحم: عن عمر بن سعد «الأسدي»، عن عبد الرحمن، عن الحارث بن حصيرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ:
خَرَجَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ يُظْهِرَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَلِيٌّ أَنْ كُفَّا عَمَّا يَبْلُغُنِي عَنْكُمَا.. فَأَتَيَاهُ فَقَالَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَسْنَا مُحِقِّينَ؟!
قَالَ: بَلَى.
قالا: أو ليسوا مبطلين؟. قال: بلى. قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!.
قَالَ: كَرِهْتُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا: لَعَّانِينَ، شَتَّامِينَ تَشْتِمُونَ، وَتَتَبْرَأونَ، وَلَكِنْ لَوْ وَصَفْتُمْ مَسَاوِئَ أَعْمَالِهِمْ فَقُلْتُمْ مِنْ سِيرَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ كَذَا وَكَذَا، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَ«لَوْ» قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَهج بِهِ، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ.
فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك‏[6].
- الرواية الثانية:
التي رواها ابن أعثم الكوفي في كتابه «الفتوح» بعد كلام طويل لأصحاب أمير المؤمنين (ع):
قال: فعندها خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي، فجعلا يظهران البراءة من أهل الشام واللعنة لهم، فأرسل إليهما علي أن «كُفّا عمّا يبلغني عنكما».
فأقبلا إلى عليّ وقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق؟.
قال: بلى!.
قالا: فَلِمَ تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟.
فقال: لأنّي أكره لكم أن تكونوا لعَّانين شتَّامين، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم كذا لكان ذلك أصوب في القول وأبلغ في الرأي، ولو قلتم: اللهم ! احقن دماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم[7] ، لكان ذلك أحب إليَّ[8] لكم.
فقالا: يا أمير المؤمنين! فإننا نقبل عظتك ونتأدب بأدبك[9].
- الرواية الثالثة:
التي رواها الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال» فقال: قالوا: وبلغ عليّاً أنَّ حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام، فأرسل إليهما أنْ كُفّا عمّا يبلغني عنكما.
فأتياه، فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحقّ، وهم على الباطل؟».
قال: «بلى، ورب الكعبة المسدنة».
قالوا: «فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟».
قال: «كرهت لكم أن تكونوا شتَّامين لعَّانين، ولكن قولوا: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لهج به»[10].
- نستخلص من هذه الروايات الثلاث:
1- اتّفاق هذه الروايات على أنَّ أمير المؤمنين (ع) كان يكره لأصحابه أن يكونوا شتّامين لعّانين وهذه الكراهة بمعنى عدم الرضا والمنع من هذا الفعل فإذا صحّت سنداً فإنّ مفادها حرمة السبّ واللعن كما فهمها بعض العلماء الذين سوف يأتي الحديث عنهم، لا الكراهة التي هي أحد الأقسام الخمسة «الحرمة، والوجوب، والاستحباب والكراهة، والجواز».
2- مفاد هذه الروايات مع روايات أخرى صحيحة السند وقوله تعالى ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: 108] وأنَّ اللعن من سائر الناس أحد مصاديق السبّ؛ مُفاد كلّ ذلك:
أنَّ السبّ واللعن من الأمور المحرّمة: وذلك أنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) منع أصحابه بشدّة من الشتم واللعن كما جاء في الرواية الأولى والرابعة «قَالَا: فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ؟!» وفي الثانية والثالثة «قالا: فلم تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟» ومنع الإمام المعصوم دالٌ على الحرمة. فالسبّ واللعن لم يكونا من الأمور العبادية كما يصوّره البعض، بل من الأمور المبغوضة التي تجلب مختلف الفتن والمصائب.
3- أنّ حرمة السب واللعن لا تُنَزِّه الطرف الآخر ولا تبرّؤه من كفره إن كان كافراً، أو من فسقه إن كان فاسقاً، أو من ضلاله إن كان ضالاً «وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ» فقد يستحقُّ الطرف الآخر اللعن والعذاب الأليم في واقع الأمر لأفعاله الشنيعة فهذا شيء، وشتمه ولعنه شيء آخر.
4- أنّ الإمام (ع)عندما منع من الشتم واللعن واللذين هما من مساوئ الأخلاق طرح عملاً آخر أكثر مفعوليّة منهما، ألا وهو شرح أفعال الطرف الآخر لجماهير الأمّة بعدلٍ وإنصاف دون الكذب والبهتان.
5- الدعاء للمخالف بالهداية عن الضلال «.... وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَجَّ بِهِ» إنَّ صاحب القلب الكبير الرحيم حتى لأعدائه لم يقتصر على عدم سبّهم والدعاء عليهم بالعذاب واللعن لهم– حتى وإن فُسّر بالدعاء على الغير- بل ثقّف شيعته أن يدعوا لأعدائهم ومخالفيهم بالهداية، فأين هذه الروحيّة والثقافة التي يريدها علي بن أبي طالب (ع) حتى لمن سلَّ سيفه عليه يقاتله، وبين ثقافة السب والشتم واللعن؟؟؟ !!!
6- الدعاء لهم بحقن دمائهم «اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا....» وفي الرواية الثانية «ولو قلتم: اللهم! احقن دماءهم....» ولم يذكر «دماءنا» أي لم يذكر دمه ودم أصحابه بل كان نظره على حفظ دم عدوّه ومَنْ يقاتله.
إنّني لا أفهم لغة السبّ والشتم واللعن في قاموس هذا الرجل الذي خلقه الله مع ابن عمه وأولاده الهداة رحمة وذخراً وشرفاً ليس للمسلمين فحسب، بل للبشرية عامة.
إنَّ المحافظة على حقن الدماء مهمٌّ إلى أبعد حدّ، وبأيِّ ثمن كان، وبأيِّ وسيلة، والسبُّ والشتم واللعن من أهمِّ أسباب سفك الدماء في الأمة فَيَحْرُمان ولو بالعنوان الثانوي، إذا لم يَحْرُما بالعنوان الأوّلي.
7- النتيجة الحَسَنة: بالالتزام بعدم السبّ والشتم واللعن فهو الخير للأمة لمحافظتها على كرامتها، بل ووحدتها، وقد يحصل الوئام بين المتنازعين كما قال (ع): «لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَخَيْراً لَكُمْ».
8- إنّ مفردات السبّ والشتم واللعن لم تكن ثقافة أمير المؤمنين (ع)، بل ثقافة العاجز المهزوم الذي لم يكن لديه أيّ رصيد علميّ أو عمليّ أو أخلاقيّ، والإمام أمير المؤمنين (ع) بعيدٌ عن هذا بُعْدَ ما بين السماء والأرض سواءً كان في حال الحرب أو السلم، وشيعته المخلصون على هداه سائرون، لهذا قال حجر وعمرو بن الحمق «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك‏» فمن يستعمل السبّ والشتم واللعن- حتى لمن يستحقّ- لم يتأدّب بأدب أمير المؤمنين (ع) وإنّما تأدّب بأدب أعدائه الذين اتّخذوا السبّ واللعن ثقافة استمرّوا عليها لعشرات السنين.


الهوامش
[1] الكافي ج : 3 ص : 422 في الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ .

[2] انظر وجوه القرآن للحيري .

[3] غريب القرآن للطريحي ص 555 .

[4] غريب القرآن للطريحي ص 555

[5] وذكر زيد بن حارثة في قضية الزواج .

[6] وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 103 وعنه في بحارا لأنوار ج : 32 ص : 399

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج3 ص171

أعيان الشيعة ج 4 ص 569 وج 8 ص 376

الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة للسيد علي خان ص 423

وعند مستدرك الوسائل ج12 ص 305 ح14159

جامع أحاديث الشيعة ج15 ص 518 ح1667

نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ج2 ص104 وج6 ص 318

مستدركات علم الرجال للنمازي ج2 ص 253

[7] زيد في وقعة صفين ص 103 حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به .

[8] الظاهر سقطت كلمة [ وخيراً ] كما تقدت في رواية نصر بن مزاحم .

[9] كتاب الفتوح - لأحمد بن أعثم الكوفي - ج 2 - ص 543

[10] الأخبار الطوال - الدينوري - ص 165