«داعش» أيضاً تنظيم هش. وهو في لحظات كثيرة يُشبهنا تماماً. وإذا أحصى المرء العمليات والمهمات التي تم إحباطها، قبل أو أثناء محاولات التنظيم تنفيذها، سيخرج بنتيجة مفادها أن نسبة ضئيلة من العمليات حقق التنظيم فيها ما أراد. ما حصل في لبنان في الأسابيع الفائتة لجهة كشف عمليتين كان التنظيم على وشك تنفيذهما وأحبطتا، يدفع إلى إعادة التفكير بسمعة «داعش» وبحقيقته. لكن عشرات العمليات حول العالم كان مصيرها مشابهاً، وكشف فيها التنظيم الإرهابي عن ركاكة في التجنيد والتخطيط والتنفيذ.
 
لكن هشاشة «داعش» تدفع إلى مزيد من الخوف منه، ذاك أنه استمدها من نجاحه في الاقتراب منا، ومن عيشه في جوارنا، ومن انعدام المسافة بيننا وبينه. وعلى قدر ما هو وهم غير متحقق هو أيضاً احتمال يقيم في الكثير من الوقائع العادية التي تحصل من حولنا كأفراد وكعائلات وأحياء ومدن. فأن تستيقظ في الصباح لتعلم أن عامل الأمن في الشركة المقابلة، والذي كان يلقي عليك التحية بابتسامة ألقي القبض عليه بعد أن كُشفت علاقته بـ «داعش»، وأن تكون على قناعة بأنه لم يفتعل الود الذي كان يقابلك به، فذلك يعني أن «داعش» يبتسم لك أيضاً.
 
قصة الصيداوي عمر العاصي، الذي تقول الرواية الأمنية أنه حاول تفجير مقهى الكوستا في شارع الحمرا في بيروت، عادية إلى حد مخيف. لا شيء استثنائياً فيها. والرواية النافية لها والمُشككة فيها، تبعث أيضاً على الخوف. في الرواية الأولى يُقبض على الشاب قبل ضغطه على صاعق الحزام الناسف بثوان قليلة.
 
الرواية الثانية تقول أن ثمة من جند الشاب وأرسله لكي يتم القبض عليه. في الأولى يُستدلّ على النية بالتنفيذ من حقيقة أنه يحمل الحزام الناسف، وفي الثانية يُستدل على المؤامرة عليه من حقيقة أنه لم يُفجر نفسه على رغم قضائه وقتاً في المقهى المستهدف. والروايتان لا تنفيان حمل عمر حزاماً ناسفاً.
 
لكن، لا تكمن «لا استثنائية» عمر العاصي في هذه التفاصيل، بل من قدومه إلى الكوستا من قصة عادية لا تفسر ما حاول الإقدام عليه، سواء لجهة حمله الحزام أم لجهة امتناعه عن تفجيره! فهو مناصر سابق لأحمد الأسير، وابن عائلة قليلة الحيلة عاشت من ريع تضامن اجتماعي ومسجدي تقليدي، وهذا الأخير زرع فيها خوفاً وانكفاءً وتردداً. لا شيء أكثر من ذلك في سيرة عمر.
 
لكن، ليست سيرة عمر وحدها ما يدفع إلى الاعتقاد بـ «لا استثنائية داعش»، فبعد أيام قليلة من قصته، كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية عن صيداوي آخر كان موظفاً في شركة أمن في الوسط التجاري لبيروت، وهو وفق الرواية الأمنية، تولى مراقبة منزل رئيس الحكومة سعد الحريري، والتواصل مع أقارب له من «داعش» يقيمون في مدينة الرقة السورية. و «عادية» الواقعة تكمن أيضاً في أنها هنا بالقرب منا، وغير محصنة من فضولنا. فالشاب كان عاملاً في شركة أمن مدنية، ومن المرجح أنه قام بواجباته الوظيفية على أكمل وجه، لا بل إنه كان مخلصاً لها أكثر من إخلاصه لـ «داعش»، وهو يُدرك أن راتبه الذي يتقاضاه من الشركة أهم له ولعائلته من العائد «المعنوي» الذي سيتقاضاه من «داعش» نتيجة تنفيذه المهمة.
 
الكتابة أيضاً عن هذه الوقائع تبدو عادية وغير كاشفة أي جديد. وأن تتحول الاحتمالات الدموية إلى وقائع رتيبة تكمن فداحتها في لحظة الانفجار فقط، فإن ذلك يؤشر إلى أن «داعش» نجح في ردنا عن محاولات فهمه، وفي حصر التناول بالفعلة لحظة حصولها. الانفجار هو الخبر، وليس القصة التي أفضت إليه. والقصة هي قصتنا العادية، وهي تلك التي نستيقظ في الصباح على جريانها بجانبنا، وهي بديهية ومملة ولا تستدرج خيالاً أو ذكاء أو فضولاً.
 
«داعش» بهذا المعنى ليس تنظيماً بوليسياً أو مافياوياً، كما أنه ليس «جهادياً» محترفاً، والمكلف مهمة من عناصر التنظيم يُستدرج إليها من دون جهد ومن دون توظيف. الطاقة المطلوبة لتنفيذه المهمة هي نوع من الفطرة ومن القابلية المتوافرة. عمر العاصي وابن مدينته الآخر لم يكونا جهاديين محترفين وغاضبين. الأول كان مناصراً عادياً لأحمد الأسير وهو حال مئات الشبان في صيدا، والثاني ربطته علاقة بقريب له من «داعش». ولم يكن جهاز أمن محترف وراء محاولاتهما الركيكتين، بل مجرد رغبة في التجريب.
 
عشرات العمليات التي تم إحباطها حول العالم انطوى كشفها على تفاصيل لا تدفع إلى الدهشة، وكشفت الرواية عن حقائق غير مذهلة حول المنفذين والمُخططين. فهل من عادية أكثر من أن يقود شاب جانح سيارة ليدهس بها عابرين على الطريق.
 
أي تخطيط تحتاجه هذه الفعلة غير توافر القابلية؟ أما الرغبة والتصميم على التنفيذ، فهذا ما لا توفره التعبئة السياسية والدينية فقط، بل الدافع النفسي أيضاً، والأخير سابق على «داعش» ومتحقق بفعل شروط العيش العادي في زمن الانفصام هذا. ولهذا تبدو فعلتا عمر وابن مدينته جزءاً من شرود جماعي يمكن أن يفضي إلى إشكال متفاوتٍ من الاستثمار. فمأساة صيدا مع خرافة أحمد الأسير لم تعد استثنائية، بل صارت جزءاً من الحكاية العادية للمدينة، لا بل إن ما حصل كشف أن الأسير لم يكن أكثر من تعثر المدينة بنفسها، ومن تحول الطرفة اليومية إلى موت يومي.
 
يحتاج «داعش» إلى لحظات قليلة من وقت ناشطه، ولا يحتاج إلى أوقاته كلها. أما الناشط نفسه فلا تربطه بالتنظيم أكثر من مساحة شعورية ضيقة يتجاوزها كل يوم. هي لحظة اختلال ما، تصيب أي واحد منا. شبه نزوة عابرة، وشبه شهوة بالموت يمكن أن تنقضي بسيجارة أو بانفجار. وعليك أثناء بحثك عنها أن تعيد النظر في التفاصيل العادية والأليفة المقيمة في الرواية الرتيبة لسير المرتكبين. عليك أن تخاف أكثر كلما شعرت بالملل من الوقائع، فحينئذ عليك أن تُدرك أن ما تسمعه هو قصتك أيضاً، تلك التي يصيبك الملل كلما عاودت سماعها.