يعتبر المفكر اللبناني الدكتور رضوان السيد من أهم المنشغلين بالدراسات الإسلامية بحثاً وترجمةً خلال النصف قرن الأخير، وقد اشتغل-علاوةً على الأبحاث والدراسات، والاستقصاء في الدراسات الاستشراقية والعربية والتاريخية-بترجماتٍ عديدة عن الإنجليزية والألمانية. أخذت حيزاً من اهتمامه مسألة الإحيائية الإسلامية وتفجرات التيارات الصحوية الشيعية والسنية، وأخذ يدرس أدبيات وأصول وجذور الإخوان المسلمين الممتدة منذ عشرينيات القرن الماضي، اهتم بموضوعات التدبير السياسي وإدارة الشأن العام منذ بداياته الأكاديمية، ولمع اسمه بمشروعات كبرى تأسيسية تحاول تجاوز نقد التراث التي كوّن له رأياً خاصاً بها، إذ ينتقد الطيب تيزيني، ومحمد الجابري، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وآخرين، وفي هذا الحوار نسلط الضوء على أفكاره، وآرائه، وجديد مشاريعه، ونعيد النقاش حول السجالات التي خاضها مع مثقفين ومفكرين عرب من المشرق والمغرب طوال سنوات الاضطراب الماضية، ومآلات الإسلام السياسي الداعشي والنصروي ممثلاً بحزب الله:
 

*تم الإعلان عن فوزكم بجائزة الملك فيصل العالمية فرع الدراسات الإسلامية، وموضوعها «الفكر السياسي عند المسلمين حتى القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي»، التعليق الأول أن فوزكم سابقة بتاريخ الجائزة باعتباركم أول لبناني يفوز بهذا الفرع، ما هو معنى مثل هذا الجائزة بالنسبة لمفكر وباحث مثلكم؟

الفوز بجائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية في موضوع "التفكير السياسي عند المسلمين.." مهمٌّ جداً بالنسبة لي من عدة نواحٍ. ومن ذلك أن جائزة مؤسسة الملك فيصل هي أهم الجوائز العربية في كل مجالاتها. والأمر الآخر أنني أول لبناني يفوز فيها. وهذا يعني أنّ هذا العلم الشريف صار له ممثلوه البارزون في لبنان أيضاً، فاللبنانيون الذين حصلوا على جوائز من المؤسسة من قبل كانت في الدراسات العربية، أو العلمية. والأمر الثالث أنني حصلتُ عليها منفرداً، بينما كانت الجائزة تُعطى في الأغلب الأعم لاثنين أو ثلاثة. وبذلك فإنّ اللجنة العلمية للجائزة اعتبرتني متميزاً في هذا التخصص على المستوى العربي والإسلامي. إنّ كلَّ هذه الاعتبارات كما سبق القول مهمة. لكنْ هناك ناحية لا بد من ذكرها. وهي التفكير السياسي أو التفكير بالدولة في المجال العربي الإسلامي. لقد اهتممتُ بهذا الأمر، أي أمر الدولة منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

*أبرز الدراسات في هذا المجال يا دكتور؟

صدرت لي في هذا المجال عشرات الدراسات والتحقيقات والترجمات، بحيث اقترح عليّ الجابري وحنفي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، تشكيل "جماعة الفكر السياسي الإسلامي"، أي أن تكون عندنا جمعية مثل الجمعيات العلمية الاُخرى في العلوم الإنسانية. لقد تحقّق لي في هذا المجال نوعٌ من الريادة. وقد درّستُ كورسات في جامعات غربية وعربية في التسعينيات وما بعد في تخصص: الفكر السياسي الإسلامي، أو ما يحب البعض تسميته: تخصص السياسة الشرعية. إنها علامةٌ فارقةٌ في عملي العلمي، وسأحرص على هذا التميز وأُتابعُهُ بكل سبيل. وشكراً لمؤسسة الملك فيصل تقديراً للشجاعة في طرح هذا الموضوع للجائزة، لأنّ مسألة الدولة وعلائقها بالدين هي الموضوع الرئيس والهم الرئيس الآن، ولسنواتٍ قادمة.

فهد الشقيران

 

*انشغلت منذ البدايات الأكاديمية بأطروحات التدبير السياسي، أو "السياسة الشرعية" وتوصف بأنك تربيت على "نشأةً مقاصدية" ما النتيجة التي وصل إليها رضوان السيد، وبخاصةٍ والأزمة التي تعاش اليوم تدور حول مفاهيم الحاكمية والخلافة، من الإخوان وحتى داعش؟

*نشأتي العلمية ليست مقاصدية. وإنما حصلْتُ على الشهادة الابتدائية من مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية في قريتنا ترشيش. ثم وبعد تخرجي في ألمانيا أسستُ بالمقاصد المعهد العالي للدراسات الإسلامية وأدرتُه طوال عقدين. أنا في الحقيقة أزهري وشيخ. إذ بعد الشهادة الابتدائية دخلتُ في بيروت للمعهد الديني الذي تُديره دار الفتوى في لبنان واسمه: أزهر لبنان، لأنّ مصر كانت ترسل بعثةً للتدريس فيه.

وبعد تخرجي في المعهد الديني ذهبتُ للدراسات العليا بالأزهر في مصر وتخرجت عام 1970 بالإجازة العالية في "العقيدة والفلسفة" من كلية أصول الدين. وفي العام 1972 حصلتُ على منحة من مؤسسة أديناور الألمانية مدتها خمس سنوات، وذهبتُ إلى جامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية حيث حضّرتُ أُطروحةً في التخصص الرئيسي: الإسلاميات، وفي تخصصين فرعيين: اللاهوت الكاثوليكي والبروتستانتي، واللغات السامية. لقد أردتُ أن أكونَ اختصاصياً في فلسفة الدين بالفعل. ولولا أنه كان سيُفرض عليّ تعلُّم اليونانية واللاتينية وما كانت مدة المنحة تكفي، لأحببتُ أن يكون اختصاصي الرئيسي في الفلسفة الوسيطة.

*متى كانت بوادر الثوران الإحيائي؟

لقد أدركتُ منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ومقتل الرئيس السادات عام 1981 أننا مقبلون على مشكلات كبرى مع حركات "الصحوة" الإسلامية. ولذلك فإلى جانب متابعتي للدراسات والنشرات في السياسات الإسلامية الكلاسيكية، صدر لي عام 1987 الكتاب الأول في الإسلاميات الحديثة بعنوان: الإسلام المعاصر. ثم صدر لي عام 1997 كتاب اسمه: سياسيات الإسلام المعاصر، درستُ فيه أصول الإسلام السياسي وتطوراته المعاصرة. وقد أفدتُ كثيراً من التدريس بالجامعات الأميركية في التسعينيات من ناحيتين: ناحية مناهج البحث، وناحية تأثير السياسات الدولية في مصائر منطقتنا، وهذا ظاهرٌ في كتابي: الصراع على الإسلام، وفي الأعداد التي أصدرتُها في الموضوع بمجلة الاجتهاد التي حررتُها بعد مجلة الفكر العربي (1979-1985) ومنذ العام 1988 وحتى العام 2004. في الإسلام المعاصر درستُ مفاهيم "الصحوة" الأساسية، وفي سياسيات الإسلام (1997) درستُ تطورات الحركات الإسلامية السياسية والجهادية. أما مفاهيم الحاكمية والخلافة فقد كتبتُ عنها عشرات البحوث والدراسات التي جمعتُها في كتاب سميتُه: "أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي"(2014). ووجهةُ نظري أنّ أساس المرض في الصحوة وفقهائها وفي أحزاب الإسلام السياسي، والجهادياتُ فرعٌ عليها في الأصل ثم استقلّت ومضت بعد القاعدة إلى داعش وإدارة التوحش.

*لاحظت أن المعلقين على فوزكم بالجائزة ركزوا على النشأة المقاصدية لكم دكتور رضوان، لكن بخصوص هذا المجال وبرغم ازدهاره في الدراسات الحديثة، ما الذي يمكن أن تضيفه المقاصدة الشرعية على أزمات المسلمين اليوم، مع أن المقاصد استعملت نفعياً من قبل بعض مفكري الإخوان المسلمين؟

-لستُ كما سبق القول من خريجي المقاصد، بل من خريجي الأزهر. والمقاصد جمعية خيرية أنشأت مدارس ومستشفى قبل مئةٍ وأربعين عاماً. وكان قصدُها نهضوياً في التعليم والطبابة لتحسين أوضاع المسلمين، ومنافسة الاتجاهات التبشيرية التي كانت سائدةً في مدارس الإرساليات، وفي الجامعتين الأميركية واليسوعية. ولكن اعتبرني الإعلاميون مقاصدياً لأنّ إدارة جمعية المقاصد كانت أول من أقام لي احتفالاً بعد حصولي على الجائزة.

*نقصد منذ البداية المجال العلمي للمقاصد لا المقاصد المؤسسة يا دكتور؟

"المقاصد الشرعية" موضوعٌ مختلفٌ تماماً. وقد استند النهضويون إلى هذا الأصل أو الفقه بعد طبع كتاب: الموافقات للشاطبي بمطبعة الدولة التونسية عام 1884م. فمقولة المقاصد الشرعية عند الشاطبي (وهو فقيه مالكي من القرن الخامس عشر الميلادي) تقول بالضرورات الخمس التي تعتبرها مقاصد وغايات للشريعة وهي: حق النفس (الحياة)، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق المِلْك. وهي ضرورية لقاء النوع الإنساني. وقد أُنزلت الشرائع كلها لصَونها. والفكرة جليلة ومهمة، وقد كتب فيها الفقيه النهضوي التونسي الطاهر بن عاشور، والفقيه والسياسي المغربي علاّل الفاسي. ثم انصبّ سيلٌ من الكتابات أفاد منه الصحويون والإخوان من بينهم بالذات، كما أفادوا من مقولة السياسة الشرعية، وحولوها إلى نظام الحكم في الإسلام! لقد اشتغلتُ طويلاً على عمليات تحويل المفاهيم الذي قام به الإسلاميون منذ حسن البنا وعودة والمودودي وسيد قطب والقرضاوي. بيد أنّ الاستيلاء الإخواني والسلفيات الجديدة على فقه المقاصد وفقه السياسة الشرعية، لا ينبغي أن يصرفنا عن التفكير النقدي في عمليات تحويل المفاهيم، والعمل العلمي والأكاديمي في استنقاذ فقه المقاصد، وفقه السياسة الشرعية من براثن الصحويين والجهاديين. لدينا ثوران في الإسلام، يُكافَحُ منذ سنوات بالأمن. وعلينا أن نعمل جميعاً مثقفين ومؤسسات دينية على استعادة السكينة في الدين، وإخراجه من بطن الدولة. لن ننجح في مكافحة العنف والإرهاب، إلاّ بالعمل التعليمي والنهضوي المستنير، وبالتعاون بين دول الحكم الرشيد والمؤسسات الدينية الإصلاحية، والمثقفين والإعلاميين الحريصين على سلامة الدول والمجتمعات.

*لديك تحليل مهم حول موقف المفكرين المعاصرين من الإسلام السني، باعتبارهم جعلوا عبء التطرف والجمود وانتشار التقليد عليه، مقابل موجة امتداح لتيارات التشيع والتصوف معتبرينها ذات أبعاد روحانية، وأكثر تعلقاً بالتأويل وتعدد التفاسير، ما الذي قادك إلى هذه الفكرة؟

حتى الآن أنا حائرٌ في أسباب إقبال المفكرين العرب الكبار منذ الستينيات على اشتراع قطيعة مع الموروث الديني والفكري والثقافي. لقد ظلّ أركون حتى التسعينيات من القرن الماضي غير مهتم بالحركات الإسلامية الحديثة، بل كان كل الوقت شأنه شأن الجابري والشرفي وآخرين كثيرين مهتماً بفرض قطعٍ للعلائق بين الجمهور والإسلام السني الموروث. وهذا الأمر الفظيع لم يشاركهم فيه حتى كبار المستشرقين.

لستُ أدري لماذا كرهوا الإسلام السني بالذات، رغم أن الذين نجحوا في إقامة دولة دينية في عالم الإسلام المعاصر لأول مرة هم الشيعةُ الإيرانيون.

لستُ من أنصار التقليد، لكنني أطلب أن تكون علائقنا بتاريخنا الفكري والديني سلسة وطبيعية وقائمة على الاستيعاب والتجاوُز. قال لي مستشرق فرنسي عام 1998: مفكروكم جميعاً مصابون بمرض كراهية الإسلام والخوف منه، وهم يعتبرون أنّ الجمهور غير مؤهَّل للتقدم إلاّ إذا ترك موروثه الديني! وقد تربَّى على أيدي الكبار هؤلاء جيلان من العرب كتبوا مئات الدراسات في ضرورات القطيعة وشروطها من أجل التقدم. لقد ابتُلي التقليد الإسلامي المتصدّع منذ أواخر القرن التاسع عشر بالنهضويين والسلفيين: النهضويون يريدون تنحية التقليد للإصغاء لضرورات المثال الغربي والحداثي في اعتقادهم. والسلفيون يريدون ضرب التقليد لفتح باب الاجتهاد المغلق من وجهة نظرهم. لكنّ اليساريين العرب وبعض القوميين ليسوا نهضويين بل هم حداثيون. بعد ظهور القاعدة وهجمات 11 سبتمبر صارت لدى الولايات المتحدة استراتيجيات لمكافحة التطرف والإرهاب السني، فوجد الحداثيون العرب سياقاً دخلوا فيه بحماس، مع التحدث جانبياً عن الديمقراطية والتقدم.

وهؤلاء جميعاً يعلمون أنّ حركات الثوران هذه ليست من نتاج النص الإسلامي أو التقليد، بل هي من حركات الحداثة والعولمة التي تريد مقاتلة الحداثة والعولمة بأدواتها، وهي تستعمل النص الإسلامي من أجل التسويغ والتبرير والشرعنة. أُسامة بن لادن مثل جيفارا في كراهية الغرب، لكنْ في حين يستخدم ذاك ماركس وماوتسي تونغ، يستخدم هذا القرآن وابن تيمية. لكل ثقافةٍ رموزُها وطرائقها وأساليبها في الاحتجاج وفي النقض وفي مكافحة ما تعتبره ظلماً. المهمُّ أنه في حين مضى الأميركيون والغربيون بحجة حماية أنفسهم من الشر الإسلامي إلى اقتراح بدائل على المسلمين اعتبروها مسالِمة مثل التصوف، ومثل التشيع، مضى المثقفون العرب الحداثيون إلى التصريح تارةً بكراهية الإسلام السني، وطوراً باختصاص السلفية بالكُره أو المُضيّ قُدُماً وبدون حياء للقول بكراهية الأكثرية السنية العربية والإسلامية.

وهكذا ما عاد الأمر حديثاً موارباً في فلسفة الدين وطرائق تجديده؛ بل تبرير الطغيان العربي والتدخل الإيراني العسكري والتشيعي ضد الأكثرية المسكينة المشردة في بقاع العالم وجهاته الأربع. عندما قال لي د.نبيل خليفة: بل إنّ السنة بالذات مستهدفون من إيران والأميركان والروس والصينيون والهنود، قلتُ له: بل الصراع استراتيجي، ثم إنّ الإيرانيين يرون أنه حقهم وفرصتهم الإفادة من الغضب الأميركي على العرب والمسلمين منذ غزو العراق عام 2003. لكنّ الأمر تجاوز ذلك كثيراً بموجات القتل والتهجير والتشييع. وخلال ذلك كُلِّه وباستثناء صادق جلال العظم من الكبار، ظل المثقفون العرب مشرقاً ومغرباً مع الأسد وخامنئي وحسن نصر الله. هذه سياسةٌ مباشرة، وما عادت لها علاقة بالموقف من التقليد، وهي نتاج وعي مضلَّل، وإجرام أقلّوي ونخبوي بعدة أبعادٍ ومعان.

*كثيرون من صناع القرار بالعالم وآخرهم أوباما يرون في الإسلام السني معضلةً أنتجت الإرهاب، بينما المذاهب الأخرى مجرد ضحايا التشدد السني، ما سبب انتشار مثل هذا الرأي الذي يؤمن به حتى بعض السياسيين في لبنان؟

هناك ثوران إسلامي سني وشيعي. وقد استطاع الثوران الشيعي الاستيلاء على الدولة الإيرانية. والدولة توجِّهه الآن فيما تعتبر أنه يخدم مصالحها الاستراتيجية. وله لونٌ طائفي ومذهبي لأنّ الحاكمين رجال دين، يحملون أحقاداً تاريخية. وينبغي أن لا ننسي الآثار العميقة لحرب صدام على إيران. أما الثوران السني فلم يستطع الاستيلاء على دولة عربية أو إسلامية كبيرة أو متوسطة، ولذلك فقد انفجر في وجه العالم. وكل الحكومات العربية والإسلامية تكافحه مع الأميركيين وغيرهم على الأقل منذ العام 2001. وقد تعرضت لشروره بقدر ما تعرض الأميركيون والأوروبيون وأحياناً أكثر. لكنّ هؤلاء القتلة للمسلمين مثل غيرهم أو قبل غيرهم يقولون إنهم سلفيون، والثقافة المنتشرة في أوساط أتباعهم، وتصرفاتهم في المناطق التي يسيطرون عليها بسورية والعراق، بل في أتشيه الإندونيسية تشبه بعض تصرفات سلفيي القرن التاسع عشر.

ولذلك يرى كثيرون من قادة العالم وسياسييه أنّ السلفية خطرٌ عليهم. وهذا في الوقت الذي يقول فيه داعش إنّ الأخطر عليهم الأتراك والسعوديون وليس الإيرانيين أو الأميركان أو الروس! والآن يريدون تسليم بلدة الباب إلى قوات النظام السوري ليحولوا دون استيلاء قوات درع الفرات التي تدعمها تركيا على البلدة! وربما يتفقون مع الأكراد الذين يهاجمون معقل داعش بالرقة على المهادنة لمناضلة تركيا معاً!

*ورأي السياسيين في لبنان؟

لا تُهمُّني كثيراً آراء بعض السياسيين في لبنان، فهؤلاء يعملون ضمن تحالف الأقليات وهم يكرهون العرب والإسلام وليس داعش بالتحديد. وإنما الذي يهمني الخروج بالفعل من السلفيات الجديدة/ القديمة المتشددة لأنه خطرٌ على ديننا وأمتنا ودولنا. وفي المملكة العربية السعودية خطابٌ جديدٌ بشأن التعددية والاعتدال وإنكار التكفير والبراءة وعدم استبعاد الآخرين باسم الدين والمذهب. وأنا متأكدٌ أنّ القيادات الدينية السعودية ضد التكفير والتطرف والنزاعات الدينية. لكنني أرى أنّ هذا كلَّه ما عاد كافياً، بل لا بدَّ إضافةً للخطاب الجديد من نقدٍ ومراجعةٍ للخطاب القديم. ولا بد من تعاون أكبر وأعمق بين القيادات الدينية في السعودية ومصر والمغرب (المؤسَّسات الدينية السنية الكبرى في العالم العربي) في التربية الدينية والتعليم، وفي توجيه الشباب، وفي العلاقة بالمسيحيين والمسلمين الآخرين في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالم الأوسع. لقد قلتُ هذا كلّه في محاضرتين أَلقيتُهما عام 2014 و2016 بمركز الملك فيصل بالرياض وكان بين الحاضرين أُناسٌ من هيئة كبار العلماء ومن المثقفين السعوديين. لا بد من المراجعة والنقد القاسي للنفس وللأساليب السابقة في التعامل مع مسائل الاختلاف الديني بداخل الإسلام وخارجه.

نعم إنّ الثوران الديني الذي تقوده الآن السلفيات الجديدة أساء لعلاقاتنا بالعالم، وبالمسلمين الآخرين. وكنتُ أدرّس بهارفرد عام 2002 عندما كان الأميركيون ثقافياً وسياسياً ودينياً وعسكرياً يستعدون لغزو العراق بعد أفغانستان. وقلتُ وقتها لأحد الأساتذة المحافظين من معهد القيم الأميركية: أفهم أن تهاجموا القاعدة في أفغانستان لأنها هاجمتكم، إنما لماذا العراق؟ ولماذا الغزو لنشر الديمقراطية بالعراق وليس في غيره؟! وأجابني الرجل متردداً: هاجمتنا اليابان في بيرل هاربور عام 1941 فغزوناها وأضعفناها. ولا بد من غزو بلد عربي الآن، فمعظم الذين هاجمونا سعوديون، وغزو العراق أهون على العرب من غزو السعودية أو مصر! إنّ السنة بالذات هم أول وأهم ضحايا التشدد السني، لكنّ غيرنا متضررٌ منه أيضاً وهم يريدون إخماده، وقد قلتُ ذلك في كتابي: الصراع على الإسلام الصادر عام 2004. علينا في الجانب الديني والثقافي والقومي الآن ثلاث مهمات صارت ضرورات وجود: الإصلاح الديني، وإنقاد الدولة الوطنية بأنظمة الحكم الصالح، وتصحيح العلاقات بالجوار وبالعالم.

*"الإسلام الحنبلي" لجورج مقدسي، كتبت مقدمته، وعملت على نشره مع سعود المولى، وكنت مهتماً بالأفكار التي تضمنها منذ قراءتك له قبل ثلاثين سنة، ما الذي لفتك في الأطروحة هذه حول الإسلام الحنبلي؟ وكيف كانت علاقة الحنبلية بالسلطة؟

قرأتُ محاضرات مقدسي في السبعينيات عندما كنتُ أدرس بألمانيا. ثم تعرفْتُ على مقدسي عام 1976 عندما دعاه أستاذنا إلى توبنغن فدرّسنا كورس. وقد اختلفْتُ معه بشأنها آنذاك وأصرّ على فكرته. ووعدتُه بترجمتها عندما صاحبتُهُ بالولايات المتحدة في التسعينيات، وصحّحتُ له كتابه: الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الذي كان يطبعه بالمعهد الألماني ببيروت. فكرة مقدسي الرئيسية في المحاضرات الأربع أنّ الحنابلة هم الدعاة والمسؤولون عن العقيدة السنية، وظلّوا كذلك على مدى العصور.

وكان بذلك يجادل غولدزيهر الذي اعتبر أنّ الأشعرية هي عقيدة الكثرة الكاثرة من أهل السنة، وهي الأرثوذكسية ليس الحنابلة. ووجهة نظري أنّ الجيلين اللاحقين على أحمد بن حنبل مضوا بعيداً في التشدد، بحيث كانت هناك ضرورة لدى الجمهور السني لاشتراع مذهب عقدي جديد هو الأشعرية. وقد كان هناك خلاف واحد بين الأشعري وحنابلة الجيل الثالث:" استحسان الخوض في علم الكلام" للدفاع عن العقائد السمعية السنية وهو الأمر الذي رفضوه. وعلى أي حال فقد كان مقدسي الذي عمل على الحنبلية طوال حياته شديد الإيمان بالحيويات الحنبلية الفائقة، وأنه ستكون لها عودة، وقد صدق حدْسُه. فقد أقامت السلفية الحنبلية الدولة السعودية، وتسلف في القرن التاسع عشر علماء وسلاطين من الهند وإلى المغرب، وها هم الآن ثلث شبان المسلمين من السلفيين. للسلفية المعتدلة شأنٌ ومستقبلٌ في أوساط المسلمين كما كان لها ماضٍ قريب. السلفية بحاجة للتجدد وليس للتشدد.

*وماذا عن ابن حنبل؟

أما ابن حنبل فقد عبّر عن وجهة نظره كما يلي: "المسلمون على ظاهر العدالة، ولا نكفّر مؤمناً بذنب، ونصلي وراء كل إمام، ونجاهد مع كل أمير". فلا براءة ولا تكفير ولا ارتداد ولا ابتداع، ووحدة الجماعة مقدمةٌ على كل اعتبار. أيها السياسيون لا تتدخلوا في الدين، ونحن لا نتدخل في الشأن السياسي. وهذه نظرة بسيطة لكنها تطورت وتعقّدت على أيدي أبي يعلي وابن عقيل وابن تيمية وابن القيم فيما يتعلق بعلائق الدين بالدولة. وقد كتبتُ أخيراً دراسةً عن ذلك عنوانها: " التفكير بالدولة، السياسة والسياسة الشرعية في المجال الإسلامي". ستصدر إن شاء الله في كتاب هذا العام.
**
 مقالتكم الشهيرة "الحملة على الإسلام، والحملة على العرب" قلت فيها:" ولستُ أدري ما العلاقة بين انزعاج جورج طرابيشي مثلا من الأرثوذكسية وأهل الحديث في القديم، وانزعاجه من فظائع الأصوليين، وعدم انزعاجه من بشار وفظائعه؛ وهو وأدونيس وعزيز العظمة وأشباههم! ... لا أعرف – إلا فيما ندر- قوميا أو بعثيا أو يساريا إلاّ وهو اليوم مع بشار الأسد وخامنئي ونصر الله والمالكي"، ما الذي قرب بين أدونيس وطرابيشي إلى بشار الأسد والمالكي؟ وما الذي دفعكم دكتور إلى هذا النقد الذي أثار جدلاً واسعاً؟

- أثار انزعاجي حفلٌ أقامته لجورج طرابيشي جمعية أوان التونسية حضره مائةٌ وعشرون مثقفاً عربياً بينهم عشرون سعودياً. وموضوع الحفل كان الاحتفاء بكتاب طرابيشي الذي عنوانه: "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث". الكتاب لا بأس به، فقد طوَّر الرجل معارفه الإسلامية واستحضر عشرة كتب للحنابلة وأهل الحديث ولخّصها ودرسها. ولو اقتصر على ذلك أو قارنها بالاتجاه الأشعري العقدي والفقهي والحديثي كما فعل مقدسي لكان أمراً حسناً. لكنه عمد إلى أخذ فكرة مقدسي الرئيسية في كتابه عن "ابن عقيل وصعود إسلام أهل الحديث" ليصل إلى أنّ المسلمين تركوا القرآن وأكثروا من رواية الحديث بحيث تغير طابع الإسلام وصار متشدداً. وفكرة مقدسي أصلاً غلط، وإذا كانت قد جرت فبداخل المذهب العقدي (وليس الفقهي) الحنبلي. ابن عقيل كان من محبي الحلاّج والمعتزلة، وقد استتابوه بعد أن كادوا يقتلونه. لكنّ السنة (بل الحنابلة) شهدوا على مدى العصور فلاسفةً كباراً ومتكلمين كباراً وعلماء عظاماً في أصول الفقه وما صاروا جميعاً متشددين عقدياً ومظلمين فكرياً بحجة الإكثار من رواية الحديث. وحتى عقائد محمد بن عبد الوهاب هي قرآنية وليست حديثية. ثم مَنْ قال إنّ المحدّثين الكبار لا يستخدمون العقل، وها هو كتاب ابن تيمية العظيم: "درء تعارُض العقل والنقل". المهم أنني انزعجتُ جداً في غمرة المذبحة في سورية، أن يعمد مفكرون سوريون إلى الحملة على "الرجعية السعودية" من خلال السلفية، ولا يقول أحدٌ منهم كلمة عن مذابح الأسد. فطرابيشي رحمه الله كتب ثلاثة آلاف صفحة ضد الجابري، وألفي صفحة ضد حسن حنفي؛ بينما قال لي إنه كتب صفحتين عن الأزمة السورية! هؤلاء الناس لا أستطيع أن أفهمهم ولا أن أسكُتَ عنهم. ولستُ مختلفاً معهم على حب السلفية أو كراهيتها، بل على حاضر العرب ومستقبلهم. وعندما هجموا عليّ ما ذكروا شيئاً عن وطنهم ولا عن هجمة الإيرانيين عليه، بل عيروني بأني القرضاوي الثاني!

*فصل لنا أكثر حول كتاب طرابيشي "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"؟

*قلتُ إنّ الكتاب مفيد، فقد جمع في صعيدٍ واحدٍ قراءات لكتب لأهل الحديث والحنابلة بعضُها نظري، وبعضها في الرواية والدراية. إنّ الذي أخذتُهُ عليه هو ما أخذتُهُ على كتاب مقدسي المهم عن ابن عقيل، واستنتاجه أنّ مرويات المحدّثين وعقائدهم المتشددة سيطرت على الإسلام السني حتى اليوم. بينما تشير "محنة" ابن عقيل أنّ المشكلة كانت بداخل الحنابلة بين التيار الصغير المقبل على الكلام والتصوف والمنطق، والآخر الكبير والمُعارض لذلك باعتباره مخالفاً لطبائع مذهب أحمد واعتقاده هو صاحب "الرد على الجهمية". والطريف أنّ مقدسي في محاضراته التي ترجمناها في "الإسلام الحنبلي" يورد حالات كثيرة للعلاقات الودية بين التصوف والحنابلة، بل يذهب إلى أنّ ابن تيمية وابن القيم كانا صوفيين! طرابيشي يقول إنّ أهل الحديث غيّروا طبيعة الإسلام، وهجروا القرآن. كل هؤلاء يدورون حول كراهية الإسلام السني بحجة أنه إقصائي، وأنّ السنة كثيرون أكثر من اللازم. وكان أركون في الثمانينيات والتسعينيات يدور مثل المستشرقين الجدد حول أسطورية القرآن وجموده وتناقضاته. ثم اكتشف مع أدونيس حيلةً أُخرى: أنّ الكثرة السنية (يسمونها الأرثوذكسية) قعدت أو ربضت على أنفاس القرآن فأخمدتها! مشكلتهم مع الجمهور العربي والإسلامي وليسوا وحيدين في ذلك فالإيرانيون يرون ذلك أيضاً، ولذلك يُهجّرون العرب السنة ويقتلونهم، وبالطبع ليس لرفع ثقل وطأتهم على القرآنّ!

*التعليق اللافت من بين المهتمين بهذا الشأن تعليق السيد ولد أباه الذي قال:" ما أراد رضوان السيد أن يبينه، ونحن نوافقه في ذلك، هو أن هذا الجهد الهائل الذي بذل في الأعوام الأخيرة لتفكيك التراث ونقده، لم يفض إلى نتائج علمية رصينة، وإنما كانت نتائجه كارثية من حيث توظيفه الواعي وغير الواعي أحياناً في هدم التقليد السني"، برأيك ما هو منشأ الخلل في القراءات حول التراث مع أن الجهود كانت حثيثة، أهو انتقاء من بعض المفكرين، أو نقص بالمعرفة التراثية، أم استعجال بالنتائج العلمية؟

قرأتُ قبل أيام كتاباً عن "مفكري القطيعة "العرب. هؤلاء الناس لا يشكون من الجهل أو سوء النية، بل من دوغمائيات بشأن التقدم وشروطه. وهم ينسبون جزءًا وازناً من تخلفنا إلى عشعشة ذلك الموروث في عقولنا ونفوسنا. وقد كان كثير منهم مغرَمين بفوكو مفكر القطيعة، وأرادوا أن يكونوا كباراً مثله. وقد رحّب بكتاباتهم كثيرون من شبانبا وكهولنا لأنهم منزعجون من الأحوال السائدة في التقاليد الدينية، وفي الأنظمة التسلطية. الطريف أنه دافع عني وقتها الأستاذ الدكتور ولد أباه، وهو يعرف فوكو أكثر منهم لأنّ أُطروحته للدكتوراه في الفلسفة الحديثة عن فوكو. ومع ذلك فهو لم يغتّر بقطائعه، ولم يفهمها كما فهمها المدرسيون العرب.

*هل يمكن وصف داعش بالظاهرة السنية؟ حسن نصر الله في خطاباته اعتبرها نتيجة المدرسة السلفية؟

-ليس داعش فقط، بل القاعدة ظاهرة سنية. إنهما جزءٌ من الثوران الهائل الذي يعاني منه الإسلام والمسلمون. وقد ظهرت خطاباتٌ جديدةٌ لدى المؤسسات الدينية ولدى الجمهور، بقصد تجاوُز الثوران وتجاوز داعش والقاعدة. وقد قلتُ من قبل إنّ الخطابات الجديدة لن تتجذّر وتدخل في النفوس والعقول إلاّ إذا استندت لمراجعةٍ ونقدٍ للماضي القريب والبعيد. السلفية ضد التقليد، ويزعم كلُّ أحدٍ أنه غير مقلِّد بل هو مجتهدٌ متبعٌ للكتاب والسنة. ويأبى بعض السلفيين تسمية أنفسهم حنابلة، بحجة أنهم لا يقلدون. فلنراجع ولننقُد ولنجدِّدْ ولنصُن بهذه الطريقة ديننا ووحدته وسلامته، وأمتنا واستقرارها، أما حسن نصر الله فيزعم أنّ السعوديين المعاصرين إنما هم متطرفون ويخالفون أعراف المسلمين لأنهم لا يزالون سلفيين، حسن نصر الله يكره ديننا ويكره دولنا، ويعمل ما يكلفه به الولي الفقيه الذي يعتقد ببيعته وطاعته. لا بد من مناضلة ومكافحة كل التطرف النصروي والداعشي.

*المفكر رضوان السيد ما هو إنتاجه العلمي القادم بعد الجائزة؟

عندي ثمانية وعشرون كتاباً تأليفاً وتحقيقاً وترجمة. ويصدر لي هذا العام كتاب عن التفكير بالدولة في المجال الإسلامي. وأعمل من سنوات على مشروع كبير عن "أهل السنة والجماعة" من ضمن عملي على التقليد الإسلامي في النشوء والاستتباب والتصدع. وقد يصدر لي هذا العام المجلد الأول منه عن أهل السنة والحقبة الحنبلية. كلمني بعد الإعلان عن الجائزة زملاء من المملكة وسموني: لسان أهل السنة، فخجلتُ وبكيت. وفقنا الله جلّ وعلا لصَون ديننا وأمتنا وعروبتنا وبلداننا. إنها ظروف صعبة جداً، فيا للعروبة ويا للإسلام.