الأهم والمهم أن العملية الانتحارية أُحبطت وأن أرواحاً أُنقذت مساء السبت. هذا ما جعل عمل قوى الأمن والأجهزة انجازاً حقيقياً تطمح اليه الأجهزة المثيلة في أي بلد آخر، فلطالما قيل إن اصطياد "الذئاب المنفردة"، قبل أن تُقدم على جرائمها، هاجس يؤرّق الأمنيين حول العالم. أما الجدل الذي دار بعد ضبط الانتحاري فمردّه الى أن سيناريو المطاردة من صيدا الى المقهى في بيروت يتضمّن أكثر من ثغرة. ومن دون أي تشكيك في الانجاز لا بدّ من ملاحظة أنه بدا معتمداً منهجاً "تجريبياً" مفخّخاً بمخاطر الخطأ والثقة المفرطة بالسيطرة على الموقف وحتى بحُسن الحظ، ولا شك في أن الدقائق الأخيرة انطوت على مجازفة مذهلة. الارهاب خطر أكثر جدّية من سوء النيّة التي وسمت تعاطي بعض صبيان السياسة مع الحدث، ومن الخفّة في تعليقات العديد من المغرّدين والفايسبوكيين لكن بحسن نيّة على الأرجح. في مطلق الأحوال يصعب الاعتقاد بأن ما حصل كان عملاً مركّباً وملفّقاً للإيقاع بأحد المشتبه فيهم، أو حتى بالتواطؤ معه وتلقينه لتمثيل عملية انتحارية وسط الناس، بهدف تسجيل انتصار أمني. فبهذا المعنى لا نكون ازاء عمل أمني بل اجرامي يستنسخ أساليب أجهزة دموية من النوع التابع للنظام السوري وأشباهه، أي أنها لا تأبه بسفك الدماء ولا بالتداعيات، ولا يواجهها المجتمع بالأسئلة الطبيعية التي يريد أصحابها أن يفهموا ويرفضون أن يُستَغشموا. أما في الحال اللبنانية هذه فليس هناك عقل مدبّر يمكن أن يخترع عملية انتحارية، ولا هدف "وطنياً" يضطرّه الى ذلك، لكن المؤكّد أن لدى الأمنيين تفاصيل يحتفظون بها لحماية عملهم الاستباقي المتواصل، ذاك أن أي ذئب منفرد يرتبط بالضرورة بشبكة تديره ويسعون الى كشفها وتفكيكها.

من القليل الذي عُرف عن المدعو عمر العاصي، وعن أقواله الأولية، ترتسم أمامنا سيرة صارت شبه تقليدية عن "مشتبه فيه معروف لدى السلطة المعنية"، كما قيل سابقاً في فرنسا وبلجيكا وغيرهما، والأرجح أن الأمن فضّل مراقبته لاستكشاف مَن يرتبط بهم. والفارق مع "ذئاب" الغرب أن عمر ليس من المهاجرين بل انه موجودٌ في بيئته الصيداوية التي برهنت أنها ليست حاضنة لظاهرة تطرّف ارهابي، وبالتالي فإن تجربته وظروفه تبقى خاصة به حتى لو كان بعض بيئته يشاركه مشاعره في ما يتعلّق بأحوال طائفته وبالصراع السوري، أو بهيمنة السلاح غير الشرعي لـ"حزب الله" في الداخل وقتاله الى جانب نظام بشار الاسد، أو باحتلال اتباعه بلدة القُصير واستيطانها بعد تهجير أهلها الى لبنان. لماذا "تدعّش" عمر العاصي؟ سؤال ينبغي أن يهتمّ به المحققون والأمنيون قبل سواهم، لأن حاله وإن لم تكن صالحة للتعميم يمكن أن تختصر الوضع اللبناني بمعضلاته التي تجعل الأمن كابوساً دائماً.