يبدو أن في البقاع اللبناني أكبر نسبة من "الطُفّار" المطلوبين للقضاء بمذكّرات جلب للتحقيق بجرائم وجِنَح ولتنفيذ أحكام قضائيّة. ويُراوح عدد هؤلاء بين 32 و35 ألفاً بحسب الإحصاءات غير الرسميّة. طبعاً لا يرمي ذلك إلى الإيحاء بأن عدد المطلوبين للقضاء في مناطق لبنانيّة أخرى أقل وإلى الاستنتاج أن الدولة موجودة فيها بخلاف البقاع، أو أن أهلها يُنفّذون القوانين. فالمذكّرات المذكورة أكثر من الهَمْ على القلب خارج البقاع أيضاً. لكن الذي لفت إلى هذا الأمر كان مبادرة "حزب الله" الأقوى شعبيّاً فيه إلى بدء درس موضوع "الطُفّار"، ومحاولة حل مشكلتهم مع الدولة كي يعودوا إلى الحياة الطبيعّة لأن اتهامات معظمهم جِنَح تمكن معالجتها. ومبادرته في الوقت نفسه إلى طرح الموضوع إعلامياً بهدوء، وإلى البحث مع "شعبه" البقاعي العشائري القبلي" في التخلّي عن ممارسة الثأر الذي يقسمه ويؤذي المقاومة. وأسباب مبادرة "الحزب" معروفة أبرزها كون البقاع "خزّان المقاومة الإسلامية" للإحتلال الاسرائيلي التي نجحت في إنهائه، وكونه مع جنوب لبنان "خزّاني" الشيعة في البلاد طبعاً مع الضاحية الجنوبيّة للعاصمة. ومبادرته هذه مُهمّة له وضروريّة لأسباب عدة أبرزها إبقاء "إلتزام المقاومة" لإسرائيل والتكفير ولإيران الإسلاميّة في المرتبة الأولى في ظل حاجته إلى استمرار جهوزيّته لبنانيّاً للتصدّي لأي اعتداء إسرائيلي، وفي الوقت نفسه لمتابعة مهمّته العسكريّة المُتعدّدة الأهداف والالتزامات في سوريا والناجحة حتى الآن.
ويبدو أيضاً أن في مناطق لبنانيّة أخرى أبرزها الشمال مشكلة مشابهة للبقاع لكنها من شقيّن. الأول وجود "فراريّة" من تطبيق العدالة بتنفيذ مذكّرات الجلب والتوقيف والتحقيق وتنفيذ خلاصات الأحكام جرّاء جنايات وجنح ومخالفات ارتكبوها، أمّا الشق الثاني فهو التركيز على المتطرّفين الإسلاميّين حتّى التكفير فالعنف في التحقيقات، وإصدار المذكّرات المشار إليها والأحكام، وملاحقتهم أحياناً إستناداً إلى مظهرهم لا إلى معلومات. وهو أيضاً التأخير المبالغ فيه في محاكماتهم الأمر الذي يصيب المُذنب والبريء، ويزيد من الشعور بالاستهداف والتعبئة الطائفية والمذهبية ويدفع إلى التنظميات الإرهابيّة.
ويبدو أخيراً أن نغمة وإن خجولة بدأت تطلع عن هيئات إسلاميّة سُنّية تطالب بإصدار عفو عن كل المطلوبين موضوع هذه المقالة. وتجلّى ذلك بتجمّعات صغيرة لعائلات معتقلين ومطلوبين.
ما القصد من إثارة هذا الموضوع اليوم؟
هو ليس طبعاً تأييد العفو المطلوب أو المقترح عن المطلوبين الشيعة والسُنّة. ولم نذكر المسيحيّين ليس لأنهم لا يخالفون ولا يرتكبون جنحاً وجنايات، بل ربما لأن أعداد مطلوبيهم أقلّ. وهو ليس طبعاً رفض طلب "الحزب" والهيئات البحث في إجراءات تحقّق العدالة، بل هو توجيه أسئلة إلى "الحزب" والهيئات الإسلاميّة السُنّية وحتى المسيحيّة هي الآتية: هل يوقف العفو عن المسجونين والفارّين استئنافهم سيرة "الانحراف"؟ هل ستتوقّف زراعة "الحشيشة" وتصنيع المخدرات وسرقة السيارات وخطف الناس من أجل الفدية وأعمال الثأر؟ هل يوقف العفو نفسه المسجونين والمُلاحقين بتهم "الإرهاب الإسلامي" عن مُتابعة مسيرتهم؟ وهل يُحفّز الهيئات الإسلاميّة السُنّية والسياسيّين لمنع "الشعب" السُنّي من التحوّل بيئة حاضنة للتطرّف والارهاب رغم خوفه الفعلي من "شيعة إيران في لبنان" الممثّلين بـ"حزب الله" في رأيه؟
والجواب عنهما هو قطعاً: كلا. وسببه أن هناك حاجة لطرح أسئلة أكثر أهميّة هي: هل في لبنان دولة فعليّة وجدّية تحظى بولاء المواطنين وتجعلهم فخورين بكونهم أبناءها؟ ولو وُجدت هذه الدولة لأمكن قبول "العفو" من حيث المبدأ. لكن في غيابها ستكون نتيجة العفو تكريس إنقسام شعب لبنان "شعوباً" ومَدّ كل منها بما يحتاج إليه من مقاتلين ومحازبين وانتحاريّين وعصابات لتحقيق مصالح فئويّة وشخصيّة وإقليميّة ودوليّة، ولا سيّما في ظل انتشار السلاح و"الجيوش".
لذلك ربّما تقضي مصلحة الوطن الاهتمام أولاً ببناء الدولة ثم ببناء المواطن الصالح الذي يكافح من أجل حقوقه ويؤدّي واجباته حيال وطنه، والمؤسّسات الضامنة لذلك من قضائيّة وعسكريّة وأمنيّة وإجتماعيّة. أين نحن من ذلك الآن؟ لا زلنا بعيدين، ولا يَغُشّنكم أحد من زعماء لبنان وسياسيّيه ومن الدول المُتدخّلة فيه إذا قال لكم: أن لبنان دخل الآن ومع العهد الجديد والتحالفات الجديدة مرحلة بناء الدولة. انظروا فقط إلى ما يحصل في قانون الانتخاب، وإلى تحوّل شعوب لبنان نحو الباطنية، فتعرفون أن الجميع "لاطون" كلٌّ في انتظار الفرص السانحة للإنقضاض على "أعدائه".