منذ نهايات القرن التاسع عشر لم تنقطع الكتابة  ولم يتوقف التفكير في دور الدين في حياة المسلمين ، وهل انه سببُ انحطاطهم وتخلفهم  أم العكس تماماً، أي ان  تواري الدين عن ان يكون محور التشريع والتفكير والتنظيم السياسي والثقافي والإداري ، وحلول ثقافة جديدة متعارضة مع الدين و ذبول التفكير الديني هو السبب في هذا الإنحطاط والتدهور!؟

على خلفية هذا الجدل وتلك التساؤلات دار محور النشاط السياسي والفكري بين ساعٍ الى المواءمة بين العِلم والدين واظهار عدم تعارض الإسلام مع العلم كما فعل المسلم الهندي ( السير احمد خان ) او ساعٍ الى تنشيط دور الرابطة الاسلامية كجامعة لوحدة المسلمين ورافعة لجهود نهضتهم كما نشط من اجل ذلك السيد جمال الدين الأفغاني وصديقه  الشيخ محمد عبدة قبل ان ينفصل عنه ويتبنّى منهج التربية والتعليم كمحور لحل مشاكل التخلف والضعف وسيادة الجهل والخرافة .
بعد ذلك وجدنا علماء نابهين يحاولون استجلاء صورة الدين الاسلامي وتنزيهه مما علق به من توظيف سياسي واجتماعي انتهى به الى مناصرة الاستبداد ورفض التجدد وظهور معارضة في قبول  الكشوفات العلمية والنظريات المعرفية كما فعل السيد هبة الدين الشهرستاني والميرزا النائيني وعشرات غيرهما، كما تابعهم الدكتور فهمي جدعان في رسالته  ( أُسس التقدم عند مفكري الإسلام).
في عشرينيات القرن العشرين ومع صدور الكتاب الجدالي المهم للشيخ علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحُكم) في عام ١٩٢٥ أي بعد عام او اكثر من  الغاء نظام الخلافة العثماني وتأسيس الجمهورية التركية بنظام علماني يقطع في الكثير من أنظمته وقوانينه ورؤيته مما تعارف عليه الناس وما ارتكزت عليه الثقافة العامة للمسلمين.  جاءت خطوة الشيخ الأزهري ومارافقها من ردود فعل عنيفة بمثابة صدمة بين فكر ينحو الى شمولية راسخة تعتقد انها مؤصلة وتدافع عن تمامية الاسلام وبين فكر تنزيهي نقدي يدعو الى استئناف النظر في الكثير من المقولات السائدة والراسخة ذات الاستقرار في البنية الثقافية العامة ،كان من جملة الردود على الغاء نظام السلطنة العثماني  تاسيس  جمعية الشبان المسلمين في مصر الخديوية بدفع رسمي لمنح السلطة شرعية دينية  تبعها بسنوات. (١٩٢٧) تاسيس جماعة الاخوان المسلمين بشعار الاسلام دين ودولة ،عقيدة وشريعة وما لبث ان انتشر هذا الشعار وهذا النمط الفكري  في أرجاء واسعة من بلاد المسلمين في حين كان الشيخ أبو الأعلى المودودي في الهند يخط مؤلفاته عن الدستور الاسلامي وحاكمية  الاسلام والتناقض الجوهري المفضي الى الكفر حينما يتبنى مسلم نظاماً للسياسة والإدارة لا ينتمي الى الفكر الاسلامي كما سطرته أدبيات فقه الحكومة السلطانية الاسلامي  منذ الماوردي  وابي يعلى الفرّاء  الى ابن تيمية 
الحراني ، لكن بموازاة ذلك الظهور القوي لجماعات ما عُرف لاحقاً ( بالإسلام السياسي) كان فيلسوف هندي مسلم يجوب الحواضر الهندية الاسلامية مبشراً بفكر تجديدي للاسلام لا ينحو منحى سياسيا ، بل يركز على الامتلاء الروحي والتعالي الاخلاقي والسمو الوجداني  ويدعو الى أخذ العلم الحديث كعنصر موازٍ في بناء شخصية المسلم  دون اقتحام المنطقة الخطرة في التفكير السائد وهي موقف الاسلام من السياسة والادارة والحُكم وهي التي دارت عليها رحى النشاط السياسي والدعوي والصراعات الايديولوجية والفكرية والحزبية وحرَّكت مناخ التجاذبات السياسية في منطقتنا ،ايضا كانت التساؤلات على أشدها بشأن مساحة الحضور الديني في المجال السياسي 
 بين مَن يرى ان لأفصل بين الدين والسياسة وبين رافضٍ لهذا الدمج بين مجالين لكل واحد منهما مساراته الخاصة ،كان تيار الوعي الاسلامي يصرُّ على ان شرط النهوض والتنمية والاستقلال السياسي والثقافي وقدرة المسلمين على بناء الدولة الناجحة والعادلة والرشيدة متوقف على سيادة المنهج الاسلامي في كل المجالات وان الاستقلال الثقافي والاقتصادي والعلمي والمعرفي منوط بالقطيعة المعرفية مع الفكر والنظريات والرؤى والاجتهادات الاسلامية ،هكذا كان الانقسام الفكري والايديولوجي يتعمق كل يوم في بلاد المسلمين والقطيعة النفسية والثقافية تتجذّر بموقف صراعي عنيف استغلته قوى حاكمة لتبطش بمعارضيها ولتسود أجواء من القتال المجتمعي والتنكيل المسلح العنيف أفضى الى خواء اجتماعي وانهيارات اقتصادية وتراجع خدماتي وتخلف علمي وتمدد الفقر والأمية واتساع الفجوة المعرفية مع الحضارة المعاصرة وخسارة اغلب المعارك الوطنية والقومية وشيوع ظاهرة الحروب الأهلية والانقسام المذهبي والقومي وتدهور السلم الأهلي وظهور ردود الفعل المناوئة لما يُسمى بظاهرة الإحياء الاسلامي او الصحوة الاسلامية التي انتهت بظهور تنظيمات الإرهاب ذات الانتماء للفضاء الاسلامي التي اعلنت حرب التكفير ضد جميع مَن لا يتبنّى فكرها الاحادي ومنهجها المنغلق وسلوكها المتوحش وعدوانيتها المستفزة للفطرة الإنسانية  .
في التحليل الأخير لا تمثل الظاهرة الإرهابية الا حالة انتحار اسلامي داخلي يشي بعجز كبير عن مغادرة القراءة الاحادية واللاتاريخية للنصوص الاسلامية وجمود عقلي كبير واستلاب معرفي ماضوي بشكل أطاح بمقولات تيارات الاسلام السياسي  عن صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان وظهر ان الاسلام عاجز ٌعن ان يحقق تلك المقولات عمليا وان يحقق للمسلمين كأمة وجماعات وأفراد سلاماً داخلياً واطمئناناً روحياً  ويمنع عنهم فتناً مهولة توسعت لتصبح داءً يُهدد السلام العالمي والحضارة المعاصرة ولتظهر الدين وكأنه سلاح دمار شامل لا يتقيد بعرف او قانون بشري أو قيـم إنسانية .
في الرصد الدقيق بدأت تتمظهر ظواهر الإلحاد والعدمية والخواء الروحي وانطلق نقاش معمق عن دور الدين في حياة المسلمين اذا كانت تجلياته السياسية والصحوية أفضت الى هذا الدمار الواسع  وتفشي موائد  الذبح وولائم التوحش والانحطاط المتعدد الأشكال.
تبدو الحاجة ملحة الى فكر نقدي ومراجعات فكرية جادة  وصراحة جريئة للبحث عن الجذور الفكرية والمعرفية والسياسية لهذه الظواهر المتعارضة والتي ترجع الى السوأل الذي أثرناه: ما مدى مسؤولية الفكر الشمولي الذي انتشر في كل هذا الذي حصل ويحصل؟  والى  أي مدى ساهم اقحام الدين في  مجالات غير مجالاته الأصلية في ظهور هذه الظواهر غير القابلة للسيطرة ؟ وهل كان تسيس الدين او تديين السياسة هي العوامل الفاعلة في المآلات الدامية التي نعيشها ؟ وما القراءة العقلانية الناجعة للدين والايمان التي بامكانها ان تعالج مشكلات العولمة ومرحلة ما بعد الحداثة بعد مرحلة الحداثة الغربية التي أقصت الدين وانتقصت من شأن الإيمان وأنتجت وأولدت كل ردات الفعل الدامية التي حملت شعار الدفاع عن المقدس وسمو المقدسات حتى أضحى القتل والانتحار باسم الله مقدساً يستقطب الآلاف ويعبِّد طريقاً واسعة نحو الهاوية؟
في ظل هذا الجدل الواسع الذي يحتدم في الساحة الثقافية تأتي مساهمات الدكتور عبدالجبار الرفاعي لتقدم زاداً معرفياً مهماً في لحظة تاريخية خطيرة ،وهي مساهمات تمثل خلاصة تجارب شخصية وحوارات فكرية معمّقة ورحلة عمل طويلة انفتحت على قراءات واعية للموروث الاسلامي بمدارسه المتعددة والفكر العالمي وما أنتجته عقول مفكرين مسلمين بدأوا يستأنفون النظر في الكثير من المفاهيم والمقولات الدينية ، الدكتور الرفاعي  صدم الأوساط الثقافية بمنجز كبير متحرراً من قيود تاريخه الشخصي ومجال اشتغالاته البحثية والمهنية ، متبنيا منهج تفكيك المقولات القارة في قعر التفكير الاسلامي السائد عندما اصدر كتابا جريئا بُسمى (الدين والظمأ الانطولوجي) ، ما أقدم عليه الدكتور الرفاعي وهو يقدم الطبعة الثانية للكتاب في غضون عام واحد  يجعلنا نحتفي بمادة حوار وبحث ومساءلة جادة وعميقة لما استقر في أذهان الغالبية الساحقة من المسلمين عن الجوهري والفاعل والمقصود من رسالة الدين في حياة الانسان وبين مساحاته وحدوده المفترضة. إن التعاطي مع هذه  المقولات والأفكار من شأنه ان يحرِّك الكثير من المياه الراكدة ويستأنف النقاش في مآلات التفكير الديني وتجلياته الراهنة ،بما ينتظم  ضمن سلسلة طويلة من التفكير في الدين ودوره في حياة الانسان حيث الجدل الصاخب بين ناكر لهذا الدور ومتجاوز لحاجات الانسان وظمئه الوجودي للمقدس وللايمان وللدين ، وبين متوسع في هذا الدور لدرجة أدخل الايمان والدين في مجالات غير مجالاته المفترضة ما حمّل الدين وظيفة استخدمت كاداة للصراع ولنفي الآخر والحط من كرامته واشاع الكراهية والعنف والقتل المقدس!!؟
 
ابراهيم العبادي