شكلت قضية إقفال محلات بيع الخمور في كفر رمان الجنوبية جملة سجالات حادة اختلط فيها المدني بالديني والشرعي الفقهي بالقانون الوضعي ما حمّل هذه القضية أوجهاً كثيرة أدّت إلى انقسام المجتمع في القرية بين مؤيد ومعارض .
 

تمهيد: مع ظهور مشكلة بيع الخمور مجددا في بلدة كفرّمان الجنوبية، بعد أن خفتت مشاكل الاختلاط خلال الصيف الماضي في عدد من البلدات الجنوبية،عادت قضايا التسامح الديني للنقاش مجدداً.

أولا: لا تسامح في نطاق العقل الديني...

لا تسامح في نطاق الفضاء الذهني بكلّ عقل ديني مُجمّد ومسجون داخل نطاق لاهوت مُعيّن وقانون مُقدّس (شريعة) ،فهو يستبعد بالضرورة كل صلاحية فكرية وروحية للحقائق الخارجة على الحقيقة الوحيدة المطلقة، والتي تُؤسّس التراث الأرثوذكسي (أي التراث الصحيح أو "المستقيم") .وهذا ينطبق على كافة الأديان، فالقديس توما الاكويني كان يقول بأنّ البدعة أو الهرطقة هي المقاومة التي يُوجّهها بعضهم ضد الحقيقة المطلقة، وهذا ما ذهب إليه كل مؤلفي كُتُب البدع المسلمين (الملل والنحل للشهرستاني والفرق بين الفرق للبغدادي).

إنّ كل أنماط الدولة وأنظمة الحكم التي تعاقبت في أرض الإسلام من الخلافة إلى الإمامة إلى الإمارة إلى السّلطنة كانت قد تشكّلت من أجل تطبيق القوانين التشريعية الناتجة عن المذاهب اللاهوتية-السياسية، وهذا ما يساعد في فهم القانون العثماني الذي لا يسمح ببيع الخمور علناً، وبما أنّنا ما نزال في الفضاء العقلي للقرون الوسطى، ولم ندخل في الفضاء العقلي للحداثة، ستظل مسألة الانتهاكات الصريحة للشريعة الإسلامية مطروحة بحدّة بعيداً عن أعين القوانين والأعراف المدنية.

ثانياً: شروط التسامح الصعبة للانتهاكات الشريعية...

في نطاق المجتمع الإسلامي في جنوب لبنان (المذهب الشيعي) كان التسامح هو السائد في في تطبيق الشريعة في مجال العلاقات الأُسريّة ،والاختلاط وسماع الغناء وبيع وشرب الخمور، وما إلى ذلك من أحكام فقهية، وقد ساعد على رسوخ مفهوم التسامح هذا وجود دولة حقّ مدني وقانون يضمن الحصانة المتساوية لحرية الفكر والعقيدة والسلوك ضمن القوانين المدنية المرعية الإجراء بنطاقٍ واسع، وهذا بدوره يتطلب وجود مجتمع مدني متماسك ومتقدم ومُشبع إلى حدّ الكفاية بالثقافة الفلسفية والقانونية المتسامحة ، وذلك كي  يلعب دور المساند والمتشدد مع الدولة ،دولة القانون. طالما أنّ أحكام الشريعة تقتصر على الأحوال الشخصية دون أن تتعدّى ذلك إلى الأحوال المدنية .

للأسف، هذان الشرطان: دولة حق، ومجتمع مدني مفقودان بنطاق واسع، وهذا ما يُنذر بالمزيد من محاصرة بعض المواقع والأصوات التي ما زالت تحاول الحفاظ على حرياتها المدنية والحقوقية التي تصونها السلطة البشرية الدنيوية ،والتي يجب أن تحُلّ محل "حكم الله" الخاضع للتلاعبات اللاهوتية المختلفة والمتناقضة، فالله عزّ وجلّ يتعالى على البشر ،ولا يمكن لأحد أن يحكم باسمه إلاّ تعسُّفاً، فالبشر هم الذين يحكمون البشر في الواقع حتى لو كانوا يتوهّمون العكس، الله ليس مسؤولاً عن أخطاء البشر ونزواتهم وصراعاتهم على الأموال والسلطة.
يجب أن تعلم هذه القوى التي تتآكل مواقعها مع تآكل مواقع دولة الحق والقانون، أنّها  أمام نوع مريع من الخلط بين التجربة الروحية للإلهي، والتوليد الاجتماعي والتاريخي للقانون، خلط كان فكر القرون الوسطى قد تحاشاه أو تجنّبه، كانت الشريعة قد تولّدت بشكل تدريجي وتاريخي لتلبية حاجات المجتمعات الإسلامية في القرون الهجرية الأولى، لا ما تحاول فرضه اليوم الحركات الأصولية الحالية (سُنةً وشيعة) لمفهومها للشريعة على مجتمعات دخلت في أواخر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.

انتكاسات خطرة في الأوساط الشيعية لن تنقذها سوى عودة دولة القانون الموعودة، وقيام مجتمع مدني يدافع عن حقوقه الروحية قبل الحقوق المادية.