تعتمد أمّةُ الإسلام القرآن الكريم مرجعاً أساسياً، إلاّ أنّ واقع الحال يُظهر أنّ المسلم يجد ذاته مُفكّكاً وضائعاً في خضمّ النصوص التراثية التي غمرت الكتاب الكريم وأغرقتهُ بالشروحات والتأويلات والاسقاطات والتحوير والتبديل، وانتظامها في مذاهب وملل ونحل متفرقة.
 

أولاً: النصوص التراثية جثث مفخخة

ذهب البعض إلى وصف النصوص التراثية بالجُثث المفخخة، ما يستلزم الحذر الدائم من انفجاراتها المباغتة وغير المحمودة العواقب، وإذ لا يمكن تفادي هذه المفخخات ، يجب العمل على تعطيل مفاعيلها الخطرة، وهذا يتطلب عمليات جراحية دقيقة ، لا تُستثنى منها عمليات تدمير وتطهير لهذه الجثث المفخخة. فقد تمّ تهريب معظم الموبقات والمخازي والجرائم كبضاعة رائجة ومقبولة ومشرعنة في ثنايا النصوص التراثية.

ثانياً: أبو حيّان التوحيدي، وأمثلة تُحتذى

سبق لأبي حيان التوحيدي أن حدث بضرر النصوص وخطرها بعد وفاة المؤلف، فعمد إلى إحراق كتبه في آخر عمره، لقلّة جدواها في رأيه، وضنّاً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، فكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذلهُ على سوء هذا الصنيع، ويُعرّفه قبح ما اعتمد من هذا الفعل الشنيع، فكتب أبو حيان يُبرر فعله ذلك، ويعتذر لصاحبه فيقول: أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّهُ وعلانيته؛ فأما ما كان سرّاً فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأمّا ما كان علانيةً فلم أُصب من يحرص عليه طالباً، على أنّي جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحُرمتُ ذلك كلّه...وممّا شحذ العزم على ذلك أنّه شقّ علي أن أدعها لقومٍ يتلاعبون بها، ويُدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراؤون نقصي وعيبي من أجلها...وكيف أتركها لأُناسٍ جاورتهم عشرين سنة فما صحّ لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخُضر في الصحراء، وإلى التّكفُّف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء  بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسُن بالحرّ أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.
وينتقل بعد ذلك التوحيدي إلى ذكر من سار على هديهم، واقتفى سيرتهم في إتلاف كتبهم وهم من العلماء الأفذاذ والزّهاد والعباد فيذكر:
أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء، مع زُهدٍ ظاهر، وورعٍ معروف، دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر.

إقرأ أيضا : التباكي على الصحافة الورقية.. والإنحطاط الشامل


وهذا داوود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناءٌ وذهول، وبلاءٌ وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غارٍ في جبل وطرحها فيه وسدّ بابه، فلما عوتب في ذلك قال: دلّنا العلمُ في الأول؛ ثم كاد أن يُضلّنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناهُ من أجل من أردناه.
وهذا أبو سليمان الداراني، جمع كتبه في تنّورٍ وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
وهذا سفيان الثوري، مزّق ألف جزءٍ وطيّرها في الريح وقال: ليت يدي قُطعت من ها هنا، بل من ها هنا، ولم أكتب حرفاً.
وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي، سيد العلماء، قال لولده محمد: تركتُ لك هذه الكتب، تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طُعمةً للنار.
تُرى لو قُيض لأسلافنا أن يشهدوا ما تفعله النصوص في النفوس هذه الأيام ، وكيف تُوظّف وتُستخدم لجعلوا جُلّها، إن لم يكن كلّها، طُعمةً للنار، أو مرميةً في بحر، أو مدفونة حيث لا تصل لها يد ولا يفتتن بها مؤمن.