لقد شاءت ظروف الحرب اللبنانية وملابساتها، فضلاً عن تغييب الإمام الصدر، أن ينهض الإمام شمس الدين بأعباء المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى منذ العام 1978. وفي نيسان 1994 جرى انتخابه رئيساً للمجلس من قِبَـل الهيئتين الشرعية والتنفيذية، وفي جميع الأحوال ظلَّ الإمام يواصل جهوده الفكريّة والعمليّة لتثبيت السلم الأهلي وتحقيق الوحدة والتقدّم والعمران في لبنان، كما واصل جهوده لتدعيم الأخوّة بين العرب والمسلمين، وبين البشر أجمعين، على قاعدة الحق والعدل والكرامة للجميع وبين الجميع
 

شكل الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين حالة استثنائية في حياته، واستطاع كرجل دين أن يحرك الماء الراد في النصوص والتأويلات، وأخرج الدين من عباءات الماضي الى الواقع ليترك الأثر الفعال والمدوي في معالجة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي عموما ولبنان خصوصا .
الإمام شمس الدين في ذكراه اليوم نتطلع إليه كرمز خلده زمانه، ونتطلع إليه بمثل الحاجة التي نحن فيها لأمثاله، ونفتقده في أصعب الظروف التي تمر علينا كوطن وكطائفة .


مولده و نشأته :
ولد الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين ليلة الجمعة، الخامس عشر من شعبان سنة 1354 هـ/ 1936م، في النجف الأشرف من العراق، حيث كان والده الشيخ عبد الكريم مقيماً للدراسة الدينية في الحوزة العلمية.
نشأ في بيت علم وفضيلة، وعلى شظف من العيش. وما إن بلغ الثانية عشرة من العمر حتى كان قد تعلّم القرآن الكريم على والدته الحاجة زينب بنت الحاج علي كمال، رحمها الله، كما تعلّم مبادئ النحو والصرف على والده، حفظه الله، ومقدمات الأصول والبلاغة والمنطق على بعض الفضلاء من مدرّسي الحوزة العلميّة في ذلك الحين، ومنهم الشاعر عبد المنعم الفرطوسي.
عام 1948م، وكان الشيخ محمد مهدي في الثانية عشرة من عمره، قرّر الوالد العودة إلى وطنـه لبنـان في ظروفٍ شديـدة الصعوبة. وفي ذلك يقول الوالد الشيخ عبـد الكريم : " … تركت الشيخ محمّد مهدي في العراق يعاني الفقر والجوع والبرد. لقد اختار البقاء بعزم وإصرار، وكان ذلك بتوفيق من الله تعالى ورعايته الذي صبّره على وضع حياتي صعب لا يصمد أمامه إلاّ من كان قلبه حيًّا بحقائق الإيمان" (2) . وعن تلك الفترة أيضاً وبعض السنين التي أعقبتها يقول الإمام محمّد مهدي : " … وكنت إذ ذاك في بداية الشباب وذروة الحياة الدراسيّة في النجف الأشرف، حيث الفقر والحاجة إلى حدّ الجوع… والحمد لله على نعمته وفضله وحسن توفيقه؛ فقد كانت أياماً مباركة رزقنا الله فيها الصبر، وكانت قسوتها تربية وترويضاً وإعداداً لما أراده الله اللطيف بعباده. كانت حياةً قاسية، وكان الملاذ من كلِّ ذلك الدرس والقراءة، وكان من جملة ما نلوذ به – إذا مللنا الدرس – ديوان شعر، أو كتاب تاريخ، أو قصّة موضوعة أو معرّبة، أو جريدة. وقلّما كنّا نحصل على الجريدة لأنّنا لا نقدر على ثمنها، أو لا نجرؤ على التظاهر باقتنائها، فكانت من قراءات السّر ! لأن الجريدة والمجلّة كانتا في عُرف النجف الصارم آنذاك من الأمور "العصريّة"التي تحمل في ثناياها الكفر والضلال وأفكار الأجانب من دول الغرب الكافر الذي غزانا واستعمرنا وجاء بقوانينه المخالفة للشّريعة الإسلاميّة وفتح مدارسه العصريّة ؛ ومن هنا كان قلق النجف على عقيدة وتديُّن تلاميذه … " (3) .
حياته العلميّة ونشاطه الفكري والاجتماعي في العراق
أمضى الإمام شمس الدين نحو ثلاثٍ وثلاثين سنـة في العـراق بشكلٍ متواصل. وقد رأينا أنّه – وهو في مقتبل شبابه – قد آثـر متابعة طلب العلم هناك، مع شظف العيش، على العودة إلى لبنان، "بالرغم من إغراءات لبنان في ذلك الحين مقارنة مع أوضاع النجف"، على حدّ تعبيره (4) . وهكذا درس "كفاية الأصول" على الشيخ محمد تقي الأيرواني، و "اللمعة الدمشقية" على الشيخ محمد تقي الجوهري، وجانباً من تقريرات الشيخ النائيني على الشيخ محمد تقي الفقيه، ورسائل الشيخ الأنصاري في الأصول العلميّة على السيد عبد الرؤوف فضل الله، و "المكاسـب" في الفقه للشيخ الأنصاري على السيـد علـي الفاني. ثمّ أتمّ دراسته على "مستوى الخارج" في الفقـه على المرجع الأعلـى في حينه السيد محسن الحكيم (5) ، وفي الفقه والأصول على السيد أبي القاسم الخوئي (6) .
كانت المرحلة العراقية– النجفية من حياة الإمام شمس الدين مرحلة خصبة، حافلة بالنشاط الفكري والاجتماعي والعمل الاسلامي العام، فضلاً عن الدراسة والتدريس. وقد كلّفه المرجع السيد محسن الحكيم إدارة شؤون المرجعية في منطقة الفرات الأوسط ما بين 1961 و1969 م، وكان مركز عمله مدينة الديوانية. وقد رافقه في رحلة الفكر و الجهاد هذه أعلام كبار، منهم السادة موسى الصدر ومحمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم ومهدي الحكيم ومحمد تقي الحكيم، فكانوا حلقة من العلماء المجاهدين تحلقّت حول المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم ثم حول السيد أبي القاسم الخوئي من بعده.
في بداية نشاطه الفكري في العراق أصدر الشيخ شمس الدين كتاب "نظام الحكم والإدارة في الإسلام" ثم كتاب "بين الجاهلية والإسلام"، وهما من الكتب المعتبرة التي واجهت بكفاءة ودراية تيّارات الإلحاد والشيوعيّة من جهة، وتيارات التطرّف والحزبيّة الإسلاميّة من جهة أخرى. وعلى صعيد الفقه السياسي يُعتبر الإمام شمس الدين من أوائل الفقهاء الشيعة المعاصرين في العالم العربي الذين اهتموا بمسألة نظام الحكم في الإسلام، حيث ألّف كتابه الموسوم بهذا العنوان سنة 1954م، أي قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره.
وفي تلك الحقبة من حياته النجفية – العراقية كتب الإمام الشيخ في العديد من المجلات، وكان له الدور الكبير في تأسيس بعضها لنشر الفكر الإسلامي والثقافة السياسيّة الإسلاميّة المواكبة لروح العصر وتطوّراته، فاشتـرك مع الشيخ محمد رضا المظفّر والسيد محمد تقي الحكيـم في إنشاء جمعية "منتدى النشر" ومجلة "الأضواء" اللتين تصدّرتا منابر العمل الإسلامي في حينه وأطلقتا فكرة التحديث، ولا سيما تحديث مناهج التدريس وتطوير المنبر الحسيني.
ففي أثناء عمله كمحاضر ومدرّس في كليّة الفقه في النجف الأشرف، سعى مع زملائه المجدّدين لتنظيم الدراسة في الحوزة على أسس ومناهج علميّة تستجيب لمتطلّبات العصر. ومن إسهاماته الجليلة في تلك الفترة العمل على تخريج خطباء للمنبر الحسيني "مستوعبين للمتغيرات، واعين لظروف العصر، قادرين على مواجهته بالثقافة الرصينة العميقة، والعلم والموضوعيّة، لا بالخرافة والتهريج كما كان يحدث في كثير من الحالات. ومع أنّ هذه الدعوة إلى التغيير قد جوبهت في البيئة النجفيّة بعنف فاق كل توقّع، إلاّ أنّ القائمين عليها ثبتوا في مواقع جهادهم، وكان من خيرات هذه الفكرة تكوين عدد من الخطباء البارزين في حقل المأتم الحسيني يحظون بإقبال واسع من الجمهور ويحقّقون نفعاً كبيراً..."(7). كذلك برز هذا الجهد التنويري التحديثي في سلسلة كتب مشهورة للإمام شمس الدين، أُعيد طبعها عدّة مرات، حول ثورة الحسين من مختلف جوانبها وأبعادها، كما في سلسلة دراساته عن الإمام علي ونهج البلاغة. وسيجد القارىء في القسم الثاني من هذا الكتيّب حول مؤلّفات الإمام شمس الدين نبذة عن تلك المضامين التنويرية التحديثيّة.
في تلك الفترة أيضاً أنشأ الشيخ شمس الدين مؤسّسة كبيرة في منطقة الفرات الأوسط، هي "المكتبة العامّة"، بالإضافة إلى ما يزيد على عشرين مسجداً في مدينة الديوانيّة ومحيطها. وقد تميّز عمله بالرؤية المؤسّساتية وبالنشاط الثقافي الاجتماعي المكثّف والفعّال وسط عشائر المنطقة وتكويناتها الاجتماعيّة.

إقرأ أيضًا: هل بدأ الحوار بين القوات اللبنانية وحزب الله؟
الإمام شمس الدين في لبنان
عاد الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين إلى لبنان سنة 1969 ليشارك الإمام السيّد موسى الصدر في تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وقد بذل جهداً كبيراً في صوغ توجّهات إسلاميّة لبنانيّة حول دور المجلس وفاعليّته في إطار المشروع الوطني التوحيدي الذي صاغه مع الإمام الصدر لدور الشيعة والمسلمين عموماً في لبنان. وقد انطلق هذا المشروع من اعتبار المجلس مؤسّسة مرجعيّة للشيعة اللبنانيين، تضطلع بدور وطني في الحوار والتفاعل مع سائر المرجعيّات الروحيّة للطوائف اللبنانيّة، فضلاً عن تنظيم شؤون الطائفة. كل ذلك في إطار الدولة الواحدة الموحّدة.
وفي العام 1969 نفسه ترأّس الشيخ شمس الدين "الجمعيّة الخيريّة الثقافيّة" التي كانت قد تأسّست عام 1966 على يد جماعة من الفضلاء والمؤمنين الناشطين في الحقل الخيري والثقافي العام. وقد عملت تلك الجمعيّة على إنشاء العديد من المعاهد والمؤسّسات الثقافيّة والتربويّة ودور الرعاية للأيتام والمعوزين، بالإضافة إلى إقامة الندوات والمحاضرات الفكريّة وإصدار النشرات الثقافيّة الإسلاميّة، فكان لها أثر محمود في تكوين جيل من الكوادر والمثقّفين الذين انخرطوا في العمل الاسلامي العام(9) .
خلال السنوات العاصفة في لبنان ( 1969 – 1975م) وهي السنوات التي شهدت القلق والتوتّر وتصاعد موجات النقمة الاجتماعيّة والأفكار السياسيّة المتصارعة، حيث كان لبنان مشرعاً على جميع الأفكار والتيّارات ومختبراً لها في الوقت عينه، نهض الشيخ بمهمّة التوجيه والإرشاد عبر محاضراته الأسبوعيّة ومقالاته المتتابعة في الصحف والمجلات، كما عبر مؤلّفاته المميّزة في مجال الفكر السياسي. وقد تجلّى ذلك في عدد من كتبه، مثل " مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني" و "العلمانية وهل تصلح حلاً لمشاكل لبنان ؟" و "السلم وقضايا الحرب عند الإمام علي"، وغيرها من الكتب التي كانت منارة للعلماء والمفكرين وللجيل الجديد الباحث عن مناعة فكريّة وعقيديّة إزاء النظريّات المتصارعة ومن مختلف الاتجاهات. وفي العام 1975 انتخب الامام شمس الدين نائبا اول لرئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى و كان ذلك في مطلع عهد الفتنة الدامية والحرب الأهلية التي عصفت بلبنان ربيع 1975م. وغنيٌّ عن البيان ما كان للإمامين الصدر وشمس الدين من جهدٍ استثنائيٍّ في التصدّي للفتنة الأهليّة، بما في ذلك إقدامهما على الاعتصام في بعض المساجد، فضلاً عن الاتصالات والحوارات المكثّفة مع مختلف أطراف النـزاع لوأد الفتنة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الموقف التاريخي الذي عبّر عنه الإمامان منذ بداية الحرب، ومضمونه أنّه إذا كان نضال الشيعة اللبنانيين لرفع الحرمان التاريخي عنهم وإقامة الدولة العادلة المتوازنة من شأنه أن يسعّر الحرب الأهليّة في تلك الظروف، فإنّ الشيعة يعلّقون جميع مطالبهم الخاصّة ويقدّمون السلم الأهلي والوحدة الداخليّة على سائر القضايا. إنّ هذا الموقف الاسلامي المتبصّر، المعزّز باستمرار التواصل مع جميع الأطراف، أدّى إلى استهداف الإمامين بسهام التجريح، ومن اليمين واليسار معاً في بعض الأوقات، حيث كان كلٌ من اليمين واليسار مستغرقاً في أوهامه ومشاريعه الخاصّة.
لم تمض سنوات ثلاث حتى كان الاجتياح الصهيوني الكبير لجنوب لبنان في آذار 1978، ثم مؤامرة إخفاء الإمام الصدر في آب من العام نفسه. فكان أن تولّى الشيخ شمس الدين مهام رئاسة المجلس الشيعي الفعليّة في مرحلة من أخطر وأدقّ المراحل التي عاشها لبنان؛ فعمل على توكيد الخيار الشيعي اللبناني، وهو خيار الوحدة والاندماج في " لبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه"، وهي المقولة الوطنيّة التي دخلت في مقدّمة الدستور الجديد بعد اتفاق الطائف عام 1989، والتي كانت قد نصّت عليها وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن المجلس الشيعي عام 1977، كما أعلنت بعد ذلك في بيان الثوابت الإسلاميّة في أيلول 1983(10).
إنّ مقولة " لبنان الوطن النهائي"، كما أوضحها الإمام شمس الدين في غير مناسبة، وطوّرها في عدد من المفاصل الرئيسيّة، وعبّر عنها في بعض وصاياه الأخيرة، تعني ألاّ يكون لبنان الوطن والكيان في نظر أبنائه، أو في نظر بعضهم، مجرّد محطّة مؤقّتة في سبيل كيان أوسع، عربي أو إسلامي، والاّ يكون هذا الكيان قابلاً للقسمة السياسيّة. إنّه وطن لمسلميه ومسيحيّيه معاً، في إطار العيش المشترك والتفاعل المستمر، وفي ظل دولة مدنيّة عادلة ومتوازنة، دولة القانون والمؤسّسات. إنّه الوطن- المعنى ، والوطن – الرسالة، الذي لا معنى له من دون مسلميه كراماً فاعلين، مثلما لا معنى له من دون مسيحيّيه كراماً فاعلين (11).
وتحقيقاً للمساواة والعدالة بين المواطنين، وانسجاماً مع مقرّرات اتفاق الطائف بشأن إلغـاء الطائفيـّة السياسيّة، دعـا الإمام شمس الدين في بعض الأوقـات إلى الأخـذ بقاعدة "الديمقراطيّة العدديّة" القائمة على مبدأ الشورى واعتبار المواطن الفرد " الوحدة القانونيّة" الأساسيّة – نظريّاً وعمليّاً – بدلاً من "الطائفة" في العمليّة الديمقراطيّة. وقد أثارت هذه الدعوة جدلاً واسعاً، كما أثارت بعض المخاوف والتحفّظات المسيحيّة من غلبة إسلاميّة عدديّة، فضلاً عن سوء فهم البعض لمقاصدها. وهذا ما حمل الإمام على سحبها من التداول لاحقاً، تطميناً للمسيحيّين، ومنعاً لإمكانيّة سوء استخدامها في مآرب ليست من غاياتها ومقاصدها، وتوكيداً على أن ما حمله على إطلاقها إنما كان مطلب العدالة والمساواة بعيداً عن أي تفكير في الغلبة. ثمّ إنّه في السنة الأخيرة من حياته كان يحث على إعادة النظر في قرار إلغاء الطائفيّة السياسيّة، معتبراً أنّ النظام الطائفي في لبنان بحاجة إلى إصلاح وترشيد لا إلى إلغاء (12).
لقد كان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بقيادة الإمام شمس الدين دورٌ مشهود في المحافظة على وحدة لبنان ومستقبله خلال مرحلة الفتنة والحروب الداخلية. فقد أرسى دعائم خـط الاعتدال والحوار الدائـم، والبحث عن مفاصل ينعقد عليها الوفاق الوطني، وسط أجواء التطرّف والتعصّب والتناحر. واستمر في قيـادة هذا الخط الذي نجد تعبيراته في مجمل مواقفه وآرائه وكتاباته التي تؤرّخ لمسيرة النضال في سبيل السلم الأهلي الراسخ والوحدة الوطنية المتينة.

إقرأ أيضًا: زيارة السعودية من منظار آخر
وفي جميع الأحوال ظلَّ الإمام يتعهّد إقامة وتطوير المؤسّسات الثقافيّة والتربويّة، فرعى إنشاء "المعهد الفني الاسلامي" في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، و"مبرّة السيّدة زينب" للأيتام في بلدة جبشيت الجنوبيّة، و"معهد الشهيد الأوّل للدراسات الإسلاميّة"، و"مدرسة الضحى" في بيروت، و"مجمّع الغدير التربوي" في البقاع، وصولاً إلى تأسيس "الجامعة الإسلاميّة" في بيروت. هذا إلى مواصلته تدريس طلبة العلوم الدينية في المراحل المتقدّمة من دراستهم. كذلك أشرف على إصدار مجلّة "الغدير" الفكريّة الاسلاميّة، ومجلّة "القرار" السياسيّة الثقافيّة.
منذ الاجتياح الصهيوني للبنان صيف 1982 أطلق الإمام شمس الدين شعار " المقاومة المدنيّة الشاملة" الذي تحوّل مع الزمن إلى معطى ثابت وأصيل في الحياة اللبنانيّة، فأنتج التفافاً وطنيًّا شاملاً ومشاركةً شعبيّةً واسعةً حضنت المقاومة وحصّنتها وصولاً إلى تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي في أيار عام 2000م. ويؤرّخ كتاب " المقاومة في الخطاب الفقهي السياسي " لهذه المسألة حيث يجمع أبرز مواقف ومداخلات الإمام في هذا المجال.
في موازاة اهتماماته العمليّة ومسؤوليّاته القياديّة، استمرّ الإمام شمس الدين في جهده الفكري والفقهي محوّلاً الإشكاليّات والأسئلة الحارّة إلى أطروحات غدت عناوين بارزة للحوار والنقاش الفكري في العالم العربي والاسلامي، ولا تزال تثير إعجاب المثقّفين والعلماء من مختلف المشارب والاتجاهات بأصالتها وجرأتها وميزتها التجديديّة. من ذلك أطروحاته وأبحاثه في الاجتماع السياسي الاسلامي، والاجتهاد والتجديـد، وولاية الأمة على نفسها، وفقه المرأة ( من اجتهاداته في هذا المجال جواز تولّي المرأة للسلطة العُليا في الدولة الديمقراطيّة الحديثة)، وفقه العنف المسلّح في الإسلام، وقضايا الوحدة الإسلامية، وغير ذلك من المسائل الحيويّة المعاصرة التي لا تخلو أحياناً من حرج شديد، والتي تناولها وباشرها بهمّة العالِم المجاهد، وفكر الفقيه المجدّد، ورؤية الإمام القائد الموحِّد. وممّا لا ريب فيه أنّ الإمام شمس الدين في هذا كلّه يمثل مدرسة مميّزة في الجهاد والاجتهاد، قد عاينّا بعض وجوهها وحصّلنا بعض خيراتها، ولا تزال وجوه وخيرات كثيرة فيها تدعونا إلى التأمّل والتحصيل.
إنّ الجهد الفكري والعملي المميّز الذي بذله الإمام شمس الدين في نصرة القضايا الإسلامية وجلاء مفاهيمها أهّله للقيام بدور ريادي كبير في حوار المسلمين مع ذاتهم، كما في حوارهم مع الأديان والثقافات الأخرى.
وهكذا كانت رؤيته هي التي أعطت الانطلاقة الكبرى للحوار الاسلامي – المسيحي في لبنان والمنطقة العربيّة، من خلال رعايته " اللجنـة الوطنيـّة اللبنانيـّة للحوار" و "الفريق العربي للحوار"، ومن خلال مساهماته الفكريّة والسياسيّة في هذا السبيل، بدءاً من رسالته الشهيرة إلى مؤتمر الحوار الاسلامي المسيحي في طرابلس الغرب(شباط 1976) وصولاً إلى رسالته للسينودس العام للأساقفة الكاثوليك حول لبنان الذي انعقد في الفاتيكان أواخر العام 1995، فضلاً عن علاقاته الوطيدة مع رؤساء الكنائس المسيحيّة في العالم ولا سيّما الكنائس الشرقيّة. وفي هذا الإطار قام الإمام شمس الدين بدور مشهود في تحقيق الحوار البنّاء والمنتج بين المسلمين في مصر والسعوديّة والكويت والبحرين والعراق وباكستان، كما في الحوار الإيجابي بين الإسلام والمسيحيّة عبر الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط وسائر المجالس الوطنيّة للكنائس في العالم التي تعتزّ بروابطها مع المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وتقدّر دور رئيسه في التفاهم والتعاون بين البشر.
في هذا السياق أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى التوجيه الحازم والمؤكد الذي وجّهه الإمام إلى جميع الشيعة في المنطقة العربيّة والعالم بخصوص موقفهم داخل أوطانهم ومجتمعاتهم، ولا سيما بعد انتشار الصحوة الاسلامية وتصاعد المواجهة مع العالم الغربي بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتكاثر الفتن والحروب الأهليّة في الأقطار العربيّة والإسلاميّة. ففي غضون ذلك تمّ تسليط الضوء على الحالة الشيعيّة باعتبارها تمثّل نتوءات في أوطانها، وتظافرت جهود كثيرة لرميها بالعنف والإرهاب، فأصبحت في كثير من الأوقات هدفاً للعديد من الدوائر السياسيّة والأمنيّة في العالم، فضلاً عن الدوائر الإعلاميّة. هنا كان موقف الإمام حازماً واضحاً، حيث دعا جميع الشيعة في العالم إلى الاندماج في أوطانهم، وإلى أن يكون مشروع الدولة الوطني هو مشروعهم المشترك مع سواهم من المواطنين، ولا يفيدهم في شيء أن يكون لهم مشروع خاص بهم. وعليه ينبغي انخراطهم في أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام العام وإطاعـة القوانين. فالحوار والمصالحات الداخليّة والاندماج الوطني هي الطريق السليم لحفظ كرامة الشيعة وتعزيز مكانتهم، وليس الانكفاء والسلبيّة أو الحالة الهجوميّة(15). وبديهي القول أن موقف الإمام بهذا الصّدد لا ينطلق من اعتبارات مذهبيّة أو سياسية ظرفية، وإنما ينطلق من المصلحة الاسلامية الجامعة وينبني على تأصيل فقهي بسطه في دراساته وأبحاثه حول الاجتماع السياسي الإسلامي(16).
لقد شاءت ظروف الحرب اللبنانية وملابساتها، فضلاً عن تغييب الإمام الصدر، أن ينهض الإمام شمس الدين بأعباء المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى منذ العام 1978. وفي نيسان 1994 جرى انتخابه رئيساً للمجلس من قِبَـل الهيئتين الشرعية والتنفيذية. وفي جميع الأحوال ظلَّ الإمام يواصل جهوده الفكريّة والعمليّة لتثبيت السلم الأهلي وتحقيق الوحدة والتقدّم والعمران في لبنان، كما واصل جهوده لتدعيم الأخوّة بين العرب والمسلمين، وبين البشر أجمعين، على قاعدة الحق والعدل والكرامة للجميع وبين الجميع.

 

وفاته
في أوج عطائه العلمي وتألّق تجربته القياديّة أصيب الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين بمرض خبيث تمّ اكتشافه في شهر تموز عام 2000م. على إثر ذلك أجريت له عملية جراحيّة في شهر آب، ثم انتقل إلى باريس لمتابعة العلاج، وعاد إلى لبنان يوم الأحد 31 كانون الأول 2000م. غير أنّه تعرّض لانتكاسة صحيّة خطيرة، دخل على أثرها المستشفى في بيروت، وما لبث أن توفاه الله مساء الأربعاء 10 كانون الثاني سنة 2001م.
لقد فُجع بوفاته كلّ لبنان، وكلّ العرب والمسلمين، فعبّروا عن ذلك في يوم مأتمه الحاشد، حيث دفن بجانب مسجد الإمام الصادق(ع) الكائن في أرض المجمّع العلمي الثقافي، بيروت، مستديرة شاتيلا.