بعد رفسنجاني تتجه العملية السياسية في إيران إلى المزيد من الشرخ بين الأيديولوجيا الدينية التي يبشر بها الولي الفقيه والحرس الثوري، وبين نزعات تجديدية وإصلاحية.
 

كان يسمّى ثعلب السياسة الإيرانية، هو سليل عائلة من ملاكي الأراضي ومن كبار تجار الفستق في إيران. الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني الذي توفي هذه الأيام عن عمر يناهز الـ83 عاما، هو أحد أبرز رموز الثورة الإيرانية الذين دشنوا معظم المواقع القيادية السياسية والدستورية منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إثر إسقاط نظام الشاه في العام 1979.

فقد ترأس في العام 1980 رئاسة مجلس الشورى الإيراني لدورتين متتاليتين حتى العام 1988، وكان له الدور الأبرز في إيصال رئيس الجمهورية السابق علي خامنئي إلى موقع مرشد الدولة الإيرانية بعد رحيل قائد الثورة روح الله الخميني عام 1988.

ذلك أن تولي منصب المرشد من قبل خامنئي في ذلك الوقت كان محل تشكيك بأهليته، باعتبار أنّ شروط الاجتهاد والمرجعية الدينية لم تكن متوفرة في خامنئي، لذا وتفاديا للاصطدام مع المؤسسة الدينية جرى إيجاد تخريجة كان رفسنجاني أحد مخترعيها، تقضي بأنّ خامنئي هو مرجع لخارج إيران ولا يتقدم على المراجع الكبار في المؤسسة الدينية في قم المقدسة وإيران عموما.

الشيخ رفسنجاني إلى جانب علي خامنئي، شكلا الثابت الوحيد في السلطة الإيرانية منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية إلى يومنا هذا، ورغم معركة تحجيم رفسنجاني منذ ما بعد الثورة الخضراء من قبل خامنئي والحرس الثوري، إلاّ أنّ رفسنجاني بقي شخصية محورية يصعب عزلها أو فرض الإقامة الجبرية عليها، كما حصل مع رمز الثورة الخضراء مير حسين موسوي والرئيس السابق محمد خاتمي أو رئيس مجلس الشورى السابق مهدي كروبي، وغيرهم من رفاق الثورة في زمن الخميني.

الشيخ رفسنجاني ترأس الجمهورية الإيرانية في دورتين متتاليتين، من العام 1988 إلى العام 1997، وتعود إليه إدارة عملية الانفتاح على دول الخليج العربي، وهو أوّل رئيس إيراني يزور المملكة العربية السعودية في مطلع التسعينات من القرن الماضي.

مع رئاسة رفسنجاني، التي جاءت في أعقاب نهاية الحرب العراقية-الإيرانية، أدار الرئيس مرحلة إعادة البناء ما بعد الحرب، وكان رمز مرحلة الانفتاح على الغرب ومن الذين وضعوا اللبنات الأولى لفتح قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو أكثر رئيس إلى جانب خلفه محمد خاتمي قام بزيارات إلى الخارج ولا سيما الدول الغربية، وفي أيامه برز عنوان لم يزل قائما وهو الصراع بين الدولة والثورة، ورفسنجاني كان رمزا للدولة في إيران.


وبسبب دوره ونفوذه في المعادلة الإيرانية الداخلية، لم يخرج رفسنجاني من موقع الرئاسة الإيرانية بعدما استنفد الولايتين، إلى خارج السلطة، بل تمّ استحداث موقع جديد ليشغله بعد الرئاسة، فتولّى رئاسة تشخيص مصلحة النظام، والتي فرضته طرفا في معادلة السلطة الإيرانية.

لكنّ رفسنجاني، رغم جذوره العميقة في الدولة الإيرانية، ظلّ طرفا داعما ومبادرا إلى بثّ روح الإصلاح في نظام الجمهورية الإسلامية، في المقابل كان خامنئي، الذي وصل إلى موقع المرشد والقائد بدعمه ورعايته، يهيّئ بعد سنوات من ترسيخ سلطته لنسج تحالف مع الحرس الثوري، ممهدا بذلك لانقلابه على رفسنجاني، وهو تحالف موضوعي تلاقى عليه الطرفان لإدراكهما أنّ أيّ عملية إصلاحية في النظام السياسي الإيراني وأيّ نزوع نحو تعزيز الديمقراطية، يفرضان تقليصا لصلاحيات المرشد المطلقة من جهة، والحدّ من صلاحيات وسلطات مؤسسة الحرس الثوري التي نمت على حساب الجيش وتحكّمت في الاقتصاد من خلال سيطرتها على مؤسسات الاقتصاد الكبرى من جهة ثانية.

المرشد والحرس الثوري، تكاملا في استكمال السيطرة على كل السلطة في إيران، ونجحا في قمع كل مظاهر الاعتراض والمعارضة في إيران إلى حدّ قمع رموز المعارضة وسجنهم بالإقامة الجبرية.

لكن رفسنجاني، الذي تراجع نفوذه بقي عصيّا على السلطة الإيرانية، تعرض لضغوط وساوم السلطة من دون أن يذهب إلى إعلان الولاء لخامنئي، وظلّ بين الحين والآخر يوجّه رسائل للإيرانيين تحمل موقف عدم الرضا على العديد من السياسات، فهو من أبرز المعترضين على تورط إيران في سوريا، وأعرب في أكثر من مناسبة خلال سنوات الثورة السورية عن موقفه المعترض على دعم القيادة الإيرانية لنظام الرئيس بشار الأسد على حساب خيارات الشعب السوري. ووجه أكثر من رسالة اعتراض على الاعتماد على الحرس الثوري في بناء علاقات إيران الخارجية والتورط في العداء مع المحيط العربي والإسلامي.

وعلى الرغم من تقدمه في السنّ بقي الإيرانيون يراهنون على الدور الإصلاحي لرفسنجاني، فهو إلى جانب كونه داعية إصلاح على مستوى إدارة السلطة وترسيخ مفهوم الدولة في إيران، كان يعتبر من أبرز الذين دعوا إلى تقييد صلاحية المرشد، في سبيل إطلاق حيوية ديمقراطية في إيران تعيد الاعتبار للمؤسسات الدستورية الإيرانية المنتخبة من الشعب، والتي تفقد بحكم نظام ولاية الفقيه أي قدرة على اتخاذ القرار من خارج سلطة ولي الفقيه.

فإيران التي توجد بها مجالس منتخبة، الحاكم المطلق الصلاحية فيها هو ولي الفقيه، من هنا كان اقتراحه قبل سنوات بأن يتشكل في منصب ولي الفقيه مجلس فقهاء من ثلاثة أعضاء، الهدف منه أن يشكل مرحلة انتقالية تمهد لتعزيز الدور الإرشادي بديلا عن السلطة المباشرة والواسعة التي يتولاها مرشد الثورة، والتي وصلت إلى الحدّ الذي أعلن فيه خامنئي صراحة عن تأييد ودعم ترشيح الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية في العام 2009، وهي المرة الأولى التي يخرج فيها خامنئي ليخوض معركة مرشح الرئاسة، فاقدا لدور الحياد المفترض على هذا الصعيد.

بغياب رفسنجاني يمكن القول إنّ حبل الإصلاح في النظام الإيراني انقطع. الحبل الذي كان يربط بين مبادئ الثورة الإسلامية وبين فرص الانتقال إلى دولة حديثة، أي الإصلاح من داخل التجربة. وبرحيل رفسنجاني الذي كان يحافظ من جهة على استمرار علاقته مع السلطة الأيديولوجية في إيران رغم توتّرها، ومن جهة ثانية يحافظ على بث خطاب إصلاحي وتشجيع الإصلاحيين على التغيير تحت مظلة الثورة انتهت هذه الفرصة، ذلك أنّ رفسنجاني كان يحظى بما يسمّى الشرعية الثورية باعتباره من رموزها، ويمتلك تجربة على مستوى الحكم تؤهله للخوض في الإصلاح من دون التشكيك في شرعيته الثورية والشعبية.

بعد رفسنجاني تتجه العملية السياسية في إيران إلى المزيد من الشرخ بين الأيديولوجيا الدينية التي يبشّر بها الولي الفقيه والحرس الثوري، وبين نزعات صلاحية باتت تفقد الأمل في إصلاح من داخل النظام. رفسنجاني كان فرصة للانفتاح على المحيط العربي. مع رحيل رفسجاني يستطيع مرشد الثورة والحرس الثوري التحضير لخلافة خامنئي من دون أي قلق كان رفسنجاني يسببه. بعد رفسنجاني بات الخيار بين حدّين حدّ إسقاط النظام الأيديولوجي في إيران أو بقائه مع ترسيخ الأحادية الحاكمة للدولة.