لم يعد بإمكان موسكو، التي اختبأ الأسد 6 مرات خلف يدها التي رفعت بوجه الأسرة الدولية، معطلة كل مشاريع القرارات الدولية المقدمة إلى مجلس الأمن، والتي كان بإمكانها حماية السوريين من عمليات الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها على يد نظام البعث وطهران وميليشياتها منذ 5 سنوات.
 

 لم يعد بإمكانها الآن
الاختباء خلف أصبعها لكي تتجنب ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة على ما ارتكبته في حلب، ولعل
صناع القرار في العاصمة الروسية كانوا بانتظار أن تقوم مجموعة متطرفة بتبني هجوم إرهابي ما، يستهدف
مدنيين روسا عزلا في إحدى المدن الروسية أو أن تتعرض حافلة سياح لعملية إرهابية في واحدة من مدن
العالم، وهو الفعل الذي كان الكرملين سيستغله كما استغل كل الأفعال التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية
باسم الثورة السورية، فوفرت له أغلب الذرائع لدعوشة الثورة، التي استخدمها ذريعة إضافية في تأكيد
صحة موقفه في سوريا. ولكن ما لم يكن ضمن توقعاته ولا توقعات الحزب الحاكم في أنقرة، أن تحصل
جريمة اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف على يد رجل أمن تركي شاب لم يتجاوز الـ23 من عمره، وكما
يبدو في التحقيقات الأولية فإنه لا ينتمي لأي جماعة إرهابية، فقد وفر مولود طنطاش على المحققين نصف
الطريق عندما أعلن على الملأ عن دوافعه الانتقامية، قبل أن يرديه رجال الأمن الأتراك قتيلا على الرغم من
توفر القدرة على الحفاظ عليه حيا، إلا أن التخلص السريع منه قد يريح أنقرة من نتائج تحقيق لا تخدم
مصالحها السياسية.
في المقابل، يمكن لأجهزة الدعاية التركية التابعة لحزب العدالة والتنمية، أن تزود العالم بالوثائق والدلائل
التي تثبت أن الفاعل ينتمي لكيان غولين الموازي، وأن عملية الاغتيال دبرت في عواصم غربية تتعامل مع
هذا التنظيم وتقف ضد التقارب التركي الروسي، وليس بعيدا أن تكرر أنقرة نفس السيناريو الذي روجت له
عن الطيار التركي الذي أسقط طائرة السوخوي الروسية بأنه تلقى أوامره من عسكريين موالين لغولين، وبأنه
كان أحد المشاركين في عملية الانقلاب الأخيرة، ولكن ما لا تستطيع أنقرة التهرب منه هو أن شاًبا تركًيا
يخدم في جهاز أمني ­ تعرض منذ أشهر لأكبر عملية تطهير في تاريخه ­ ولم يكن هذا الشاب ضمن قوائم
الأسماء المشتبه بانتمائها لتنظيم غولين، كما لم تعثر التحقيقات الأولية على أي صلة له بـ«القاعدة» أو أي تنظيم متطرف آخر ناشط في سوريا أو أماكن أخرى من العالم، وعليه فإن اغتيال السفير كارلوف هو أول
التعابير الحية عن الحالة التي تعصف بالشارع التركي بعد حلب، التي تشكل منذ أكثر من ألف سنة جزءا
أساسيا من الوعي الجماعي للأغلبية الإسلامية بشقيها العربي والتركي، من العرب إلى السلاجقة مرورا
بالأيوبيين والممالك والعثمانيين وحتى يومنا هذا، وليس سهلا على عامة الأتراك وعلى نخبهم الثقافية
والسياسية والروحية أن يتقبلوا تقارب حكومتهم مع روسيا، في اللحظة التي يضعون فيها أفعال موسكو
في خانة العودة إلى الحرب المقدسة ضد الأغلبية الإسلامية، وهي تعيد إلى ذاكرة الأتراك صراعهم مع
الروس الذي استمر قرابة 4 قرون، خاضوا أثناءها أكثر من 12 حربا. كما يجمع الأتراك أيضا على أن تدخل
روسيا العسكري في سوريا فتح الطريق أمام خصمهم التاريخي في المنطقة لتحقيق نصر تأخر 5 قرون، وأن
هذا الخصم الذي استعان بكل المسوغات المذهبية ليبرر جريمته في سوريا، عجز طوال خمس سنوات عن
تحقيق انتصار استراتيجي كالذي حصل في حلب لولا انحياز موسكو ضد الأغلبية السورية.
تدرك أنقرة جيدا أنه لم يعد بوسعها القيام بمزيد من عمليات التطهير الداخلي، ولا إقناع الأتراك بقبول المزيد
من الشروط الروسية، والأخطر أنه مع الإدارة الأميركية الجديدة قد تدفع المؤسسة العسكرية التركية إلى
إعادة ترميم العلاقة مع واشنطن، ما قد يكون على حساب التوجهات الجديدة للحزب الحاكم. كما أن هذا
الحادث الإرهابي سيجبر موسكو على الانتباه للمخاطر الناجمة عن إغفالها للأغلبية الإسلامية التي ينتمي
إليها 23 مليون مسلم روسي في شمال القوقاز شكلوا تاريخيا الخاصرة الضعيفة للإمبراطورية الروسية،
التي استغلتها حينها إسطنبول لزعزعة استقرار بطرسبيرغ.
لا أحد يمكن له أن يبرر اغتيال السفير الروسي، فهذا عمل غير مبرر اطلاقا، وعمل إرهابي فظيع، صحيح أن
هناك غضبا عارما مما تفعله موسكو في سوريا، خصوصا بعد أن أجهزت موسكو في حلب على ما تبقى من
اعتدال في الثورة السورية لصالح تطرف سني وآخر شيعي، ولكن هذا الفعل سيفتح أبوابا لا يمكن غلقها.