مشهد هذا الخط الأخضر الذي صنعته الباصات الخارجة من بين ركام شوارع حلب الشرقية المدمرة، وتحمل في بطونها أناس حلبيون تركوا بيوتهم وذكرياتهم وحتى جثث قتلاهم وصعدوا إلى بطون تلك الباصات ليختاروا منطقة جديدة وهم يسمعون أصوات الصواريخ تهبط عليهم هي الأخرى. 
صحيح أن صور هذا الخط الأخضر يوحي الآن وفي هذه اللحظة إلى عمق مأساة شعب، وإلى جرح لن يلتئم في وجدان مجتمع، ولكن صدقوني أن هذا الخط الأخضر سيتحول بعد حين إلى رمز من رموز الحرية، وإلى شعار للأحرار في العالم. 
وليس بعيدا عن مشهد هذه الباصات، أستذكر لحظة ركوبنا في أمثالها حين أفرج عنا من معتقل أنصار الإسرائيلي بعد مرور أكثر من عام وثلاثة أشهر من سجني فيه، وأجبرنا حينها المحتل أن تكون وجهتنا إلى بيروت وعدم العودة إلى قرانا وضيعنا في الجنوب .


وأنا جالس على مقاعد ذلك الباص، كنت أشعر وكأني أمتطي الغمام، وروحي تحلق ليس فقط فوق رُبى الجنوب وبيوته بل فوق العالم كله، كنت لا أشك أنني أقوى من سجاني، وأعظم من المحتل الضعيف الخائف من وجودي بينه، ويسعى إلى إبعادي عن بيتي وأهلي .
كانت لمسات الريح التي تلفح وجهي الطالع من شباك ذلك الباص وكأنها تتلمس مني معنى الحرية وتأخذ من عيوني معنى أن تكون مقاوما ورافضا لكل أنواع الإحتلالات، كانت تسرق مني واحدة من تلك النظرات التي كنت أجود فيها على الناس المصطفين على جنبات الطريق يلوحون لنا بأيديهم ويحسدوننا لما نحن عليه .
لعل من لم يقف هذا الموقف في حياته لن يعرف الشعور الذي ينتاب أصحاب الباصات الخضر، هو مزيج من الحزن المؤقت مع اعتزاز لا يمكن وصفه، فهم من اختار وليس سجانهم، وهم من قرروا وليس قاتلهم، وهم من قالوا كلمتهم التي أرعبت الديكتاتور حتى لم يعد يطيقهم في أرضهم لأن وجودهم خطر دائم عليه، وهذا هو معنى الحرية الحقيقي، 
أتطلع في لبنان إلى واقع الحال الذي نحن عليه، وكيف أن الطبقة الحاكمة تذلنا يوميا وتسرقنا في كل لحظة، وكيف سلبت منا كل معاني الانسانية، حتى بتنا شعبا خانعا منبطحا ذليلا، لا كرامة عنده ولا عزة، حتى صرنا مسخرة العالم ومضحكة الأمم فلا يعيرنا سارقونا أي اهتمام أو انتباه .
أتطلع إلى حالنا وما نحن عليه من استكانة وانبطاح ومهانة، وأنظر إلى هؤلاء الجالسين في الباصات كيف أنهم قاموا ورفضوا وثاروا ودفعوا عظيم الأثمان مقابل حريتهم وكرامتهم وصرخوا ملء أرواحهم بـ " لا " لقاتلهم وناهبهم، مستصحبا تلك المشاعر التي حملتها أنا في ذلك الباص الإسرائيلي اللعين، أحسدهم وأحسد إنسانيتهم العظيمة، أحزن على حالنا في لبنان وأتمنى لو كنت معهم في الباص الأخضر، فهم أكثر من يعرف أن الإحتلال إلى زوال .