في العام 2014، تحوّل فجأة إسم مدينة صغيرة معزولة في أقصى شمال سوريا، الى واحد من أشهر الأسماء المتداولة في وسائل الاعلام العالمية، وأصبح إسم عين العرب/كوباني متداولاً على ألسنة المسؤولين الدوليين وموقعاً مهمّا على خارطة القادة العسكريين.
 

عندما هاجم تنظيم داعش في ذلك الوقت هذه المدينة، إنتفض العالم أجمع، وأصبحت المنظّمات الدولية فاعلة، وتحرّكت الجيوش، وتدفّقت المساعدات العسكرية الأمريكية والأوروبية الى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني(PYD)، وخرج دي ميستورا، المبعوث الخاص للأمم المتحدة الى سوريا ليدعو علناً الى السماح بدخول مقاتلين لمساعدة سكان المدينة. 

في المقابل، تعدّ مدينة حلب واحدة من أعرق وأقدم مدن العالم على الإطلاق، يعود تاريخها الى آلاف السنين، ولطالما كانت مركزا مهمّا للتجارة والصناعة على مر العصور، ظلّت حتى وقت قريب العاصمة الاقتصادية لسوريا وأكبر تجمّع سكّاني فيها قبل أن يتم تدميرها من قبل النظام السوري وحلفائه. 

على مدى الثلاث أشهر الأخيرة تقريبا، تتعرض شرق مدينة حلب التي تضمّ لوحدها حوالي 300 ألف مدني محاصر الى حملة دموية من قبل نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين بشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق، وذلك وسط شلل كامل للمؤسسات الدولية، وصمت مطبق للولايات المتّحدة والدول الغربية. 

لوقت طويل، إستمر نظام الأسد وداعموه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في شرقي حلب شملت سياسة الحصار الجماعي والتجويع كأداة سياسية، القصف المتعمّد والمنهجي للمنشآت المدنية لاسيما المستشفيات، بالإضافة الى منع دخول المساعدات الإنسانية، واستهداف المدنيين حتى اولئك الذين قرروا الخروج من المدينة من خلال الممرات التي قالوا انّها ستكون آمنة. 

في أكتوبر الماضي، حذّر دي ميستورا من تدمير وابادة حلب بشكل كامل مع نهاية العام، وعلى الرغم من انّ البعض اعتبر هذا التصريح بمثابة إنذار نابع من الحرص على المدينة والمدنيين، إعتبره آخرون بمثابة رسالة تهديد روسية بلسان المبعوث الخاص. بالفعل، تمّ تدمير شرقي حلب ويتم التحضير الآن لإستكمال المذبحة الرهيبة بحق من بقي صامدا في المدينة. 

هناك حالة غير مسبوقة من اللامبالاة إزاء ما يجري في حلب، وكأنّنا نعيش على كوكب آخر. في حلب يتم دفن شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ومجلس الامن في كل يوم دون أن يكون هناك ردّة فعل،السماح بموت حلب هو موت للإنسانية وللحضارة وللتاريخ. 

عندما يقارن البعض بين ردّة الفعل الدولية إزاء ما جرى في عين العرب/كوباني وبين ما تعرّضت وتتعرض له شرقي مدينة حلب التاريخية من هجمات وحشيّة غير مسبوقة لنظام الأسد وحلفائه، فإنّ نتائج المقارنة المؤلمة لا توصلهم الا الى الاستنتاج بانّ هناك موافقة ضمنية من قبل المجتمع الدولي على السماح بحصول مثل هذا الأمر، خاصة عندما لا يتم تقديم الا الدعم الكلامي للمعارضة المسلّحة، في الوقت الذي تمتنع فيه هذه الدول عن فعل أي شيء لإيقاف روسيا وإيران عندّ حدّهما. 

شبكة سي بي اس الأمريكية قامت الأسبوع الماضي بنشر تقرير ذكرت فيه نقلاً عن دبلوماسي غربي إعترافه بانّ إدارة أوباما لم تضغط على إيران في سوريا خوفاً من أن يُعطّل ذلك الاتفاق النووي الذي توصّلت إليه مع طهران، وكذلك الامر بالنسبة الى الأوروبيين الذين يخشون ضياع الفرص الإستثمارية التي يؤمنّها هذا الإتفاق لهم في إيران. 

ما يزيد الأمر سوءاً هو السلوك التبريري المتّبع من قبل أصدقاء الشعب السوري. فعندما يجتمع هؤلاء لمناقشة قضايا بالغة الاهميّة والخطورة، كحلب على سبيل المثال، فانّهم لا يناقشون كيفية حماية المدنيين أو كيفية وضع حد للأعمال الوحشية التي تقوم بها روسيا وإيران والميليشيات الشيعية هناك، وإنما يناقشون كيفية إرسال بعض المساعدات لمن لا يريد مغادرة الأحياء المحاصرة، او كيفية إخراج المدنيين من المدينة.

اسطنبول
هذا النمط من السلوك يعطي الشرعية لإستراتيجيّة التجويع والبراميل المتفجرّة، ويشجّع الأسد وحلفائه على الإستمرار في تطبيق هذه السياسات التي وصفها الأمين العام بأنّها جرائم ضد الإنسانيّة. لا يقف الامر عند هذا الحد، إذ تشارك الأمم المتّحدة في رعاية عمليات التهجير القسري التي تجري بحق المدنيين، وسبق لها وأن رعت عدّة عمليات في عدّة مدن سورية، وهي بذلك تساعد في عمليات التغيير الديمغرافي التي تتّبعها إيران في سوريا. 

على ما يبدو، هناك من يعتقد أنّ قضاء الأسد على المعارضة المسلّحة المعتدلة سيؤدي الى إنتصاره، والى إستتباب الأمن في المناطق التي يدخلها، ولذلك يتم عمداّ التغاضي منذ سنوات عن جرائم الأسد وحلفائه. هذا تقييم خاطئ بطبيعة الحال، فالقضاء على المعارضة المعتدلة، والإستمرار في قتل المدنيين لن يؤدي إلاّ الى تعزيز التطرف والإرهاب والطائفية. 

يوم الأحد الماضي، إستطاع تنظيم داعش أن يسيطر على كامل مدينة تدمر الأثرية وذلك بعد حوالي 9 أشهر من انسحابه منها. لماذا حصل مثل هذا الأمر في وقت يدّعي فيه الروس والايرانيون بأنّهم يحاربون الارهاب في سوريا؟ بكل بساطة لانّهم كانوا مشغولين مع الأسد في تصفية المعارضة المسلّحة المعتدلة في حلب وفي حصار وقتل المدنيين هناك. 

منذ العام 2013، تقريبا، تحاول كل من إيران وروسيا أن تبيد المعارضة المسلّحة المعتدلة، وأن تخيّر المجتمع الدولي بين الأسد والإرهاب، تماماً كما يجري حالياً، لكن إذا بقينا على نفس المسار، فإنّ ما سنحصل عليه في نهاية المطاف هو الأسد والإرهاب معاً. 

من الوهم بمكان الإعتقاد أنّ الإستمرار في نفس السياق الجاري حالياً سيؤدي الى استعادة الأسد السيطرة على سوريا، فهو سيكون بحاجة الى أكثر بكثير من تدمير المدن وإفراغها من سكانها لتحقيق ذلك، كما أنّ محاولات كل من إيران وروسيا تدمير البدائل السياسية لنظام الأسد سيؤدي الى التحوّل لنمط المقاومة تحت الأرض أو الى حرب عصابات، ولن يكون لأحد القدرة حينها على إيقاف الإرهاب لأنّ عوامل وجوده وإستمراره مقترنة بشكل أساسي ورئيسي بوجود نظام الأسد وجرائمه.