لا يمكن أن تخسر دولة ما حرباً لم تخضها. هذه هي حال الولايات المتحدة مع معركة سورية عموماً وحلب خصوصاً. فالذين يعتبرون أن سقوط المدينة في أيدي ميليشيات الأسد وإيران يشكل انتصاراً للروس مصيبون، لكنهم يجافون الحقيقة عندما يرون فيه هزيمة للأميركيين. فالمدينة المنكوبة لم تدخل يوماً قائمة أولويات باراك أوباما، ولن تدخل بالتأكيد لائحة دونالد ترامب للمهمات الملحة.
وليس صحيحاً أن هناك أي طرف آخر غير فصائل الثورة السورية تصدى ولا يزال للمذبحة الجارية في حلب منذ بدايتها، وخاض مواجهة غير متكافئة مع طيران دولتين إحداهما كبرى، وواجه مجموعات من المرتزقة الإيرانيين المسلحين بالخبرة والحقد، وقاتل وحدات جيش نظامي لا تختلف عن الميليشيات بشيء.
الجميع تركوا الثوار لمصيرهم بإمكاناتهم المحدودة. البعض تذرع بأن بين مقاتلي حلب «إرهابيين»، وكأن نظام الأسد ليس إرهابياً، فيما هو تخلى عملياً عن كل المعارضين والمدنيين على السواء. والبعض الآخر أبدع في التضامن اللفظي والتحذيرات الشفوية للتخفيف عن ضميره ورفع العتب عن كاهله. أما الأميركيون بشكل خاص فلم تشكل معركة المدينة، ولا حتى حرب سورية كلها، همّاً لهم، لأنهم لم يروا في المشاركة فيها أي عائد، وفضلوا الاكتفاء من بُعد بالتحليلات التبريرية الباردة التي لا تقيم وزناً للمعاناة الإنسانية.
الإمدادات القليلة من السلاح والغذاء لن تكفي لصمود المدينة التي قد يحسم مصيرها في الأيام المقبلة، إذ يحرص بوتين على أن يقدم احتلال حلب هدية إلى ترامب لمناسبة تنصيبه، ودفعة على حساب تعاونهما في «المعركة المشتركة ضد الإرهاب». وهو بالتأكيد لا يشعر بأي حرج من أعمال التدمير والقتل التي يرتكبها، والتي سبق له أن تدرب على مثلها في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا أمام عالم يكتفي بالتفرج.
أما المسرحيات الأميركية الممجوجة عن المفاوضات لإنقاذ المدينة وتوقفها المتكرر فلم تنطلِ على أحد. قبل يومين فقط صرح بن رودز نائب مستشار الأمن القومي لأوباما أن هذا الأخير لم يقتنع يوماً بضرورة التدخل في سورية، وأنه استناداً إلى «التجربة العراقية» واصل التشكيك في «جدوى أي عمل عسكري محدود ضد نظام بشار الأسد وإمكان أن يحدث تغييراً كبيراً في مسار الحرب الأهلية والطائفية الجارية في سورية». وهذا ما اختبره السوريون والعالم مع الخطوط الحمر التي كان أوباما يرسمها ثم لا يلبث أن يمحوها كلما جرى تجاوزها.
وفي المذكرة التي أصدرها البيت الأبيض قبل أيام عن استراتيجية مكافحة الإرهاب ممثلاً بتنظيم «القاعدة»، أكد أوباما أن بلاده غيرت إلى الأبد مفهوم «التدخل العسكري في الخارج لنشر الديموقراطية» الذي تحول إلى توجيه ضربات محددة في المكان والزمان بطائرات من دون طيار، أو عمليات كوماندوس نتائجها شبه مضمونة.
ومن شبه المؤكد أن يستمر هذا النهج مع ترامب الذي أكد أمس أن بلاده «ستتوقف عن الركض للإطاحة بأنظمة أجنبية لا نعرف عنها شيئاً ولا يفترض أن نتورط معها، وبدلاً من ذلك يجب أن نركز على هزيمة الإرهاب وتدمير داعش»، مشيراً إلى أن إدارته «لا تريد جيشاً (أميركياً) مستنزفاً بسبب انتشاره في كل مكان وقتاله في مناطق لا يفترض أن يقاتل فيها».
أما مرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين فقال إنه «يرى في روسيا شريكاً عسكرياً محتملاً في سورية وفي أماكن أخرى».
أميركا لم تخسر معركة حلب. السوريون فقط يخسرون المدينة ويخسرون بلادهم. أما «المنتصرون» فلن ينعموا طويلاً بما أنجزوه، وخصوصاً نظام الأسد الأشبه بفزاعة تقف على رجلين من صنع موسكو وطهران.