لطالما شكّلت حلب معركة الوجود لكافة أطراف النزاع في سوريا فهي المدينة التي تشكّل عصب الاقتصاد السوري والعاصمة الثانية للبلاد ومركز ثقل ديمغرافي مهم.
 


وحلب المدينة والدور والمكان تشكّل مجالا حيويا كافيا لقلب معادلات واستبدالها بأخرى. ففي بداية الثورة السورية حصل استعراض للمظاهرات بين النظام السوري والمعارضة وكانت حلب محطة من المحطات التي استعرض فيها النظام تمثيله البشري في المدينة ليوصل رسالة للعالم بأنه ممسك بأقوى مدينة اقتصادية في بلاد الشام.
هذا الاستعراض سرعان ما ظهرت هشاشته عندما استطاعت قوى المعارضة المسلحة السيطرة على أحياء مهمة في المدينة فشاركت النظام نفوذه في عاصمة الاقتصاد ورجال الأعمال.
وحينها وضع ستاتيكو معيّن في المدينة قائم على انقسام المدينة بين نفوذين محليين هما النظام والمعارضة كانا يعكسان نفوذين إقليميَين ودوليَين وتحولت حلب إلى معادلة إقليمية ودولية ساهمت في إطالة هذا الستاتيكو حتى الآن.

حلب مهمة للنظام:

لم يرضَ النظام السوري بهذه المعادلة وكان دائما يحاول كسرها ويفشل، ذلك أن سيطرة المعارضة على أحياء في المدينة  كانت تزعجه معنويًا وجغرافيًا ولوجستيًا.
لم يكن ليرضى النظام بأن يشاركه أحد نفوذه في حلب وكان يعد العدة دائما معتمدًا على مساعدة حلفائه الإيرانيين والروس على استرجاعها بعد أن شكلت في مرحلة من المراحل محطة تصادم إقليمي مع الأتراك سرعان ما تم ضبطه.
أما على صعيد المعارضة فكانت الصورة مغايرة ومختلفة. فمنذ تحوُّل الثورة السورية من السلمية إلى المسلحة طغى على العمل العسكري لهذه القوى عامل أساسي وسلبي هو رد الفعل لا الفعل .
فقوى المعارضة المسلحة لم تبادر إلى عمل عسكري موحّد على جميع الجبهات للسيطرة على مناطق جغرافية بل كانت تنتظر فعل النظام لتدافع عن نفسها وترد وهذا ما حصل معها في حلب.
في وقت كان النظام السوري وحلفاؤه يقضمون أحياء حلب لم تظهر أي محاولة للمعارضة بالمبادرة هي بالأساس للهجوم على أحياء حلب الواقعة تحت سيطرة النظام بل انتظرت النظام أن يسيطر على طريق الكاستيلو ليقطع عنها الإمدادات لتشنَ بعدها حملة على الراموسة وسرعان ما عادت وتراجعت وفشلت.
وتعتبر لحظة السيطرة على الكاستيلو من قبل النظام بداية تراجع مشروع المعارضة السورية داخل أسوار المدينة والمقتل الحقيقي لها وهي اللحظة أيضا التي أدركت فيها المعارضة السورية أن العالم قد سلّم بالأمر الواقع وهو العالم نفسه أي المجتمع الدولي الذي رفض دعمها بأسلحة مضادة للطائرات.

رهان المعارضة:

عدم مبادرة المعارضة السورية لتنفيذ خطة سيطرة واجتياح شامل والاحتفاظ بما تملكه مردّه إلى إيمانها بأن هناك معادلة قائمة تحميها دول العالم في طليعتها أميركا وروسيا تضمن وضع الستاتيكو القائم.
لكن هذا الرهان فشل وأدركت  المعارضة ذلك متأخرة في وقت استغل فيه الروس مرحلة الانتخابات الرئاسية والانشغال الأميركي بأمورهم الداخلية ليمرِّروا مشروعهم وسط غياب وصمت دولي عمّا يجري داخل المدينة من قتل وهدم وتدمير.
وأداء المعارضة أمام هذه التغيرات لم يكن على قدر التوقعات وهذا يعكس ضعف الرؤية السياسية لهذه القوى وانشغالها بأمور داخلية على حساب الأمور الاستراتيجية المهمة.
فهذه القوى لم تعلن عن توحدها طيلة فترة الحرب السورية إلا حين أصبحت قوات النظام السوري داخل أحياء حلب الشرقية وحينها أعلنت عن تشكيل ما يسمى:" جيش حلب " لكن في وقت قاتل ومتأخر مرة ثانية.
فأداء المعارضة السورية العسكري وغياب المبادرة واتخاذ القرار وضعف الرؤية السياسية وغرقها في الرهان على العامل الخارجي جعلها تخسر معظم مراكزها في المدينة وتشتت قواها.

إقرأ أيضا : حلب معركة الوضوح... ما الذي تغير فيها؟

 

سقوط حلب:

لا يمكن غضّ النظر عن أن النظام حقق مكاسب كبيرة في هذا الأسبوع واحتلّ معاقل أساسية للمعارضة داخل المدينة وأصبحت المعارضة في بقعة جغرافية ضيقة لكن هذا لا يعني النهاية.
فاليوم الأتراك باتوا على أسوار مدينة الباب واحتلوا مناطق مهمة في الشمال السوري وفي حال دخلوا مدينة الباب فالأمور قد تنقلب وتعود للمربع الأول.
لكن التجربة تقول أن النظام السوري عندما كان يستعيد السيطرة على المدن ، كانت المعارضة تجد صعوبة في استرجاعها كما حصل في القصير وحمص، والأتراك اليوم على وئام مع الروس وهم ليسوا بوارد أي استفزاز لهم، لذلك ستتحول المعركة إلى خارج أسوار المدينة ليركب ستاتيكو جديد قوامه مدينة الباب مقابل حلب وهذه المعادلة متوقفة على جرأة الأتراك في إقدامهم على الدخول إلى مدينة الباب.
في حال فعل الأتراك ذلك ستكون هذه المعادلة هي القائمة حتى استلام الإدارة الأميركية الجديدة لمهامها وفي هذا الوقت الضائع الخيارات عديدة،  فإما يتجه النظام السوري وحلفائه نحو الرقة وهذا مستبعد جدًا وإما الإعداد لمعركة إدلب وهذا وارد وحينها ستكتمل حدود سوريا المفيدة وتبدأ التسوية الحقيقية.
فهل ستتعلم المعارضة السورية من أخطائها وتبادر بهجوم واسع على كامل حلب انطلاقًا من إدلب؟ أو تجمع قواها خارج أسوار المدينة وتشن هجوم حاسم ؟
قد تفرض المعارضة السورية هذه المعادلة الجديدة في حال حسّنت أداءها وغيرت رؤيتها السياسية وأعدّت جيدًا في فترة الانشغال الأميركي الداخلي التي بدأت تضيق.
يبقى أن حلب فرضت نفسها على الجميع كمعادلة قوية دفع ثمنها الأبرياء والأطفال والعجزة وتحولت عاصمة الاقتصاد إلى عاصمة الخراب والدمار.
فمستقبل المدينة متوقف على المعارك التي ستحصل خارج أسوارها.

 

بقلم رئيس التحرير