في الأول من ديسمبر (كانون الأول)، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وثيقة المبادئ التي ستتبناها موسكو عقيدة لها في السياسة الخارجية الجديدة، والتي نصت في
واحد من بنودها على ضرورة احترام السيادة الوطنية للدول، ورفض أي محاولات ترمي للتدخل في شؤون أي بلد آخر يسعى لتغيير السلطة فيه بطرق غير قانونية، وهو
البند الذي تستخدمه موسكو في تثبيت شرعية رأس النظام السوري بشار الأسد من جهة، ومن جهة أخرى من أجل تبرير حربها على المعارضة السورية، باعتبار أن كل من
يحمل السلاح ضد السلطة الشرعية في دمشق خارج عن القانون، وهذا ما بدأ تطبيقه في حلب، حيث أعلنت الخارجية الروسية أن المسلحين الذين سيرفضون الخروج من
أحياء حلب الشرقية سيتم التعامل معهم كإرهابيين.
هي حرب استباقية على إرادة الشعب السوري، استكملها مندوب روسيا الدائم في مجلس الأمن بعدما استخدم حق الفيتو بوجه القرار الأممي، الذي طالب كافة أطراف النزاع
بوقف المعارك في مدينة حلب لمدة أسبوع، مبررا موقفه بالقول: «كنا نتوقع تحديد جدول زمني وممرات لانسحاب المقاتلين من شرق حلب».
تنسجم المواقف الروسية الأخيرة في المحافل الدولية مع وثيقة المبادئ التي وصفت بـ«الرؤية السياسية الخارجية لروسيا»، والتي اعتبرت أن الحوار مع الولايات المتحدة
ممكن فقط على أساس المساواة واحترام المصالح المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، فهي أعادت الطابع السوفياتي في المواجهة الروسية مع الغرب، خصوصا
عندما ركزت على التداعيات السلبية لمحاولات الناتو الاقتراب من الحدود الروسية، التي يعتبرها الروس تهديدا مباشرا للأمن القومي.
تهديدات استغلها سيد الكرملين في السنوات الأخيرة في بناء شعبيته الداخلية، بغض النظر عن إمكانات بلاده وقدراتها، فيوما بعد يوم يؤكد بوتين على تمسكه بتطبيق النموذج
السوفياتي في السياسة الدولية وحماية مصالح الأمن القومي الروسي. فبعد أكثر من عقدين على هزيمة أسلافه السوفيات، ورغم كل ما تمر به المؤسسات العسكرية والسياسية
والاقتصادية الروسية من ضعف وتراجع، لم يتردد فلاديمير بوتين في تكرار تجربتهم التشيكوسلوفاكية في سوريا، باعتبارها الطريق المختصر والأقل تكلفة كي تستعيد روسيا
مكانتها الدولية، حتى لو تعرضت حكومته لعقوبات شديدة أو اتهمت بممارسة جرائم ضد الإنسانية، ففي طريقه إلى احتلال حلب، نجحت روسيا في استثمار ترسانتها العسكرية
التقليدية التي يمكن اعتبار بعض منها خردة سوفياتية، إذا ما قورنت بما تمتلكه الدول الغربية من تقنيات عسكرية حديثة ومتطورة، في فرض إرادتها على السياسة الدولية،
حتى ولو شاهد العالم بأسره الإهانة التي تعرضت لها التكنولوجيا الروسية الجديدة بعد حادث تحطم طائرة السوخوي 33 ،وهي أحدث ما وصلت إليه التقنية الروسية، بعد
فشلها في الهبوط فوق حاملة الطائرات الروسية الوحيدة، وهي الحادثة الثانية بعد فشل طائرة ميغ 29 منذ نحو الشهر في الهبوط أيضا وتحطمها فوق مياه المتوسط.
من الواضح أن روسيا المسكونة بهواجس العظمة السوفياتية استعانت بأرشيف من جهاز أمن الدولة السوفياتي، المعروف بـ«كي جي بي» من أجل إنهاء ما تعتبره تمردًا
سوريًا، يشبه إلى حد بعيد ما جرى في العاصمة التشيكوسلوفاكية براغ منتصف أغسطس (آب) 1968 ،عندما قامت القيادة السوفياتية بتنفيذ عملية «دوناي»، وهي الرمز
السري لانطلاق عملية اجتياح تشيكوسلوفاكيا، حينها استعان السوفيات بدول حلف وارسو وحشدوا أكثر من ربع مليون جندي، حيث صرح حينها وزير الدفاع السوفياتي
الماريشال أندريه غريتشكو بأن عملية التدخل العسكري ستنفذ حتى لو أفضت إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، وفي التفاصيل أن قوات حلف وارسو أعطت كل الصلاحيات
الميدانية للتعامل مع أي قطعة عسكرية موالية لحكومة براغ، فيما منعت من التعامل مع أي قوة للناتو تظهر في تشيكوسلوفاكيا دون الرجوع إلى القيادة.
المفارقة أن في أحداث براغ كان الاتحاد السوفياتي القوي يتجنب احتكاكا تصل تداعياته إلى حرب عالمية ثالثة، بينما روسيا الضعيفة استبدلت بحلف وارسو إيران،
وميليشياتها تمارس سياسة حافة الهاوية التي لا تتحمل أدنى تقدير خاطئ من شأنه أن يشعل فتيل حرب عالمية ثالثة لن تسلم روسيا من نيرانها، فيما الغرب الذي وقف مكتوف
الأيدي سنة 1968 ،يتجنب الآن أيضا استفزاز موسكو في حلب 2016 ،والمؤسف أن الثورة السورية ورغم كل التضحيات لن تنجح في إنتاج قائد من طراز دوبتشاك الذي
قال عندما رأى دبابات السوفيات تدخل وسط براغ: «يمكنك أن تدوس الأزهار ولكنك لن تؤخر الربيع»