من نكد الدنيا هذه الأيام أن يضطّر المرء للعودة إلى فقهاء القرون الهجرية الأولى ،وما أبدوه من تساهل وواقعية في مسألة عويصة كالغناء أو السماع كما يحب أن يسميه الإمام الغزالي، فمنهم من قال صراحة بالإباحة، ومن تشدّد منهم ذهب إلى الكراهة والنهي ، أمّا من ذهب إلى التحريم ، فقد لاقى ردوداً قاسية مستندة على القرآن والسّنة ، في حين يُلحّ عدد لا بأس به من رجال الدين هذه الأيام على اعتبار الغناء من المُحرّمات ، لا بل من الكبائر، وذلك دون تردُّد ، أو إمعان تفكير، أو عودة لما قاله السلف الصالح.
 


أولاً: الفقيه أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي
وهو كاتب المؤلف الهام "العقد الفريد" الذي عندما اطلع عليه علماء المشرق العربي قالوا: هذه بضاعتنا رُدّت إلينا، ويفتتح ابن عبدربه مناقشة مسألة الغناء تحت عنوان: اختلاف الناس في الغناء، والملاحظ أنّه لم يقل : اختلاف الفقهاء، وكأنّ المسألة تخصّ الناس أكثر ممّا تخص جماعة الفقه والشريعة، حيث يقول: اختلف الناس في الغناء، فأجازهُ أهل الحجاز، وكرههُ عامّةُ أهل العراق. أمّا حُجّة من أجاز الغناء أنّ أصله الشعر، والنبي (ص) أمر بالشعر وحضّ عليه، وتجنّد به على المشركين بقوله لحسّان: شُنّ الغارة على بني عبد مناف (أهل النبي وعشيرته يوم بدر) فوالله لشعرُك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. وكان أكثر شعر حسان بن ثابت يُغنّى به. وعن عائشة (رض) : علّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم، وإنّما جعلت العربُ الشعر موزوناً لمدّ الصوت فيه والدندنة ،ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور، ومن احتجاجهم في إباحة الغناء واستحسانه ما ذكره ابن عبدربه أنّ النبي قال لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت نعم، قال: فبعثتم معها من يُغنّي؟ قالت لا، قال: أوما علمت أنّ الأنصار يعجبهم الغزل، ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم.        فحيونا نحييكم 
ولولا الحبّة السمرا        ءُ لم نحلُل بواديكم 
وذُكر أنّ النبي مرّ في ظلّ فارع وهي تغنّي :
هل عليّ ويحكُمُ       إن لهوتُ من حرج 
فقال النبي: لا حرج إن شاء الله.
وعن عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحُدّاء ، قال: وما بأسُ ذلك ياابن أخي، وهذا نبيُّ الله داوود، كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور، فتجتمع عليه الجنّ والأنس والطير ، فيبكي ويُبكي من حوله.

إقرأ أيضا : الغناء الوافد إلى بلاد الإسلام من بلاد الفُرس


وما احتجّ به المحلّلون ما قاله اسحق بن عمارة: اختُلف في الغناء عند محمد بن إبراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريج وإلى عمرو بن عبيد، فأتياه، فسألهما، فقال ابن جريج:لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سُريج المغنّي ، فكان إذا غنّى لم يقل له اسكت ، وإذا سكت لم يقل له غنّ، وإذا لحن ردّ عليه. فقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول:( ما يلفظُ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيد) ،فأيّهما يكتب الغناء، الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما؛ لإنّه لغوٌ كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليّتهم وتناشُد أشعارهم.
ويورد ابن عبدربه مُلاحاةً جرت بين إبراهيم بن سعد الزهري وأبي يوسف القاضي، عندما بادر القاضي الزهري بقوله: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريفٌ أو دنيء يتحاشى عنها! قال: فغضبتُ وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق! ما أوضح جهلكم  وأبعد من السّداد رأيكم! متى رأيت أحداً سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدكم صلاته ،ويُطلّق امرأته، ويقذف المحصنة من جاراته، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا؟ من اختار شعراً جيداً، ثم اختار جرماً حسناً فردّده عليه، فاطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب...فقال أبو يوسف: قطعتني! ولم يُحر جواباً.
وهذا غيضٌ من فيض ممّا أورده ابن عبدربه من دلالات المحتجين بإباحة الغناء، ولم يتحرّج الفقيه الأندلسي من الاسترسال في ذكر أخبار المغنين ونوادرهم وإبداعاتهم، طالما أنّه قرّر منذ البداية أنّ صناعة الغناء لا تدخل في باب المحرمات، لا بل هي ممّا يصقل الذوق ويُغني الروح، وهي روح الشعر العربي ورداؤه.
ثانياً: الإمام الغزالي
وهو من الأشاعرة المتأخرين، ومع ذلك فقد كان ميّالاً للقول بعدم تحريم "السماع"، وهو بذلك ابتعد قليلا عن الغناء، وذهب في مقدمة حديثه عن السماع لاطرائه،وذلك لما تحدثهُ النغمات الموزونة المستلذة في قلب السامع ، فالسماع للقلب محكّ صادق ومعيار ناطق، ثم ينتقل لمناقشة خلاف العلماء حول السماع، وما إذا كان مباحاً أو محظوراً.
يذكر الغزالي رأي الشافعي، حيث يُستشف منه أنّ الغناء لهوٌ مكروه يشبه الباطل، وهذا بعيد عن التحريم، وكذلك مالك ،فقد نهى عن الغناء، وأفتى بجواز ردّ الجارية بعد شرائها إذا وُجدت مُغنّية، أمّا أبو حنيفة فكان يكره الغناء ويجعل سماعه من الذنوب.
أمّا أبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب" فقد ذهب لاباحته ، فقد سمع من الصحابة عبدالله بن جعفر الطيار، وعبدالله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم، وقال: لم يزل عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة كايام التشريق، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فادركنا أبا مروان القاضي وله جوارٍ يُسمعن الناس التلحين قد أعدّهنّ للصوفية، وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما.
ولا يتأخر الغزالي بالجزم ،خلافا لمن قال بتحريم السماع، بأنّه مباح، فلو قلنا بأنّه حرام، فهذا معناه أنّ الله تعالى يعاقب عليه، وهذا أمرٌ لا يُعرف بالعقل، بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النّص أو القياس على المنصوص، ويجزم الغزالي بعدم وجود ما يدلّ على تحريم السماع في نصّ أو قياس، لا بل دلّ النصّ والقياس على إباحته.وما يدلّ على ذلك أنّ سماع الصوت الحسن امتنانٌ من الله على عباده إذ قال: ( يزيدُ في الخلق ما يشاء) فقيل هو الصوت الحسن، وفي الحديث: ما بعث الله نبيّاً إلاّ حسن الصوت، ومدح النبي أبا موسى الأشعري: لقد أُعطي مزمارا من مزامير داوود، وقول الله تعالى (إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير).يدلّ بمفهومه على مدح الصوت الحسن،، ويناقش الغزالي الذين ذهبوا للقول : إنّما أُبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن، فهذا يُلزم بتحريم سماع صوت العندليب لأنّه ليس من القرآن، وإذا جاز سماع صوتٍ غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة؟ وإنّ من الشعر لحكمة.
ثالثاً : المتشددون المتفقهون 
إنّ من غرائب الأمور أن تستحضر فكر وفتاوى الإسلام المبكر، والذي كان أكثر انفتاحاً وعصرية من أفكار وفتاوى من لم يفقهوا من دينهم إلاّ الانغلاق والتحجر والتخلف والتعصب، فاشاعوا العنف والمآسي  والافكار الظلامية، الغريبة عن العصر، ومع ذلك، وللأسف، يلقون آذاناً صاغية، وبيئات تتلقف دعاويهم، يبدو أنّ سمة هذه الأيام السير القهقرى ،حتى إشعارٍ آخر، لا بدّ من انتظاره.