من المتوقع أن يواجه لبنان صعوبات مالية في العام ٢٠١٧ وذلك نتيجة عوامل عدّة منها ارتفاع أسعار النفط وإستحقاقات الدين العام، وتراجع مداخيل الدولة. هذه الصعوبات ستُضاعف في أحسن الأحوال عجز الدولة وقد تفرض عملية تسييل كمّي كبير من مصرف لبنان.ليس بجديد القول إنّ الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة مسؤول عن مُضاعفة الدين العام من العام ٢٠٠٥ (أخر موازنة تمّ التصويت عليها) وحتى تاريخه حيث إرتفع هذا الدين من ٣٨.٥ إلى أكثر من ٧٥ مليار دولار أميركي (حتى شهر أيلول ٢٠١٦).

عوامل عدّة ساهمت في هذا الإرتفاع نذكر منها:

(١) الإنفاق المُفرط خصوصاً في أجور القطاع العام التي تضاعفت بين العامين ٢٠٠٨ و٢٠١٥ حتى أصبح هذا البند وحده يستهلك نصف مدخول الدولة. أضف إلى ذلك الهدر الناتج عن المُشتريات والسفر في الإدارات العامّة كما والمشاريع التي لا جدوى منها إلّا في الانتخابات النيابية والبلدية.

(٢) الفساد الذي ينخر جسم الدولة اللبنانية والذي يُسبب خسارة مُباشرة على خزينتها بقيمة ٥ مليارات من الدولارات سنوياً. ويأخذ هذا الفساد أشكالاً عدّة ويُترجم في إدارات وطرق عدّة (مناقصات، خدمات في الإدارات، تهرّب ضريبي، مُخالفات...).

(٣) الإهمال المُفرَط من الدولة اللبنانية في دعم الإستثمارات والقيام بإصلاحات إقتصادية تدعم بيئة العمل وتُشجّع المستثمرين على الإستثمار في لبنان.

(٤) التراجع الاقتصادي الكبير نتيجة الأزمة السورية (منذ العام ٢٠١١) وما لها من تداعيات على القرارات الإقتصادية (الشلل في المؤسسات الدستورية)، ضرب سوق العمل، ضرب التصدير، والتهريب الذي يتمّ عبر الحدود والذي يبقى المُشكلة الأولى للإقتصاد اللبناني.

هذه الصورة ستكون سوداء في العام ٢٠١٧ مع عدد من العوامل التي ستزيد حتماً العجز وبالتالي الدين العام.

إستحقاقات دين عام

يشهد العام ٢٠١٧ إستحقاقات دين عام بقيمة ٧.٩ مليارات دولار أميركي (رأس مال: ٣.٩ مليارات د.أ وفوائد: ٤ مليارات د.أ). هذه الإستحقاقات توازي ١٨٪ من الناتج المحلّي الإجمالي وبالتالي لا نعرف كيف ستقوم الدولة بإستدانة هذا المبلغ من الأسواق خصوصاً أنّ المصارف تعرف أنّ وضع المالية العامّة تعيس وستعمد إلى الضغط على السلطات لرفع الفائدة (هذا إذا قبلت بإقراض الدولة).

المُشكلة الأصعب أنّ لبنان حالياً مُنشغلٌ بتشكيل الحكومة والإنتخابات النيابية ونسي أنّ الإستحقاق المالي الأول سيكون في شهر شباط ٢٠١٧ مع أكثر من ١.٥ مليار دولار أميركي (إستحقاق رأس مال)! وبالتالي فإنّ الحلول التي سيتمّ إعتمادها ستكون دون أدنى شكّ حلول أخر دقيقة كما العادة.

في كلّ الأحوال، إنّ الحلّ المُعتمد سيخلق عجزاً واضحاً في الموازنة بحكم أنّ هناك إنفاقاً أعلى من السنين العادية بقيمة ٣.٩ مليارات دولار أميركي ويتوجب على الدولة إيجاد هذا المبلغ من خلال الإستدانة.

إرتفاع الفاتورة الحرارية

للأسف عندما تمّ الإعلان عن الاتفاق على تخفيض إنتاج دول الأوبك من النفط، سمعنا وسائل إعلامية لبنانية تُهلّل لهذا الاتفاق. وغاب عن بال هذه الوسائل أنّ هذا الأمر يعني زيادة في عجز موازنة الدولة اللبنانية وبالتالي زيادة في الدين العام والضرائب.

ينقسم ارتفاع الفاتورة الحرارية الى قسمين:

(١) إرتفاع الفاتورة الحرارية على مؤسسة كهرباء لبنان والذي يعني أنّ دعم الدولة سيزيد إلى حدود الـ ١.٥ مليار دولار أميركي سنوياً بعد أن إنخفض من مليارَي دولار أميركي في العام ٢٠١٣ إلى مليار في العام ٢٠١٥. وبالتالي فإنّ عجز الموازنة الناتج عن هذا الدعم سيكون بقيمة ٥٠٠ مليون دولار أميركي إذا ما إعتبرنا أنّ أسعار النفط لن تتخطّى الـ ٧٠ دولاراً أميركياً للبرميل الواحد.

هذا السيناريو مُرجّح بحكم أنّ ارتفاع السعر أكثر من ذلك سيُحفّز إنتاج النفط الصخري الأميركي وبالتالي زيادة العرض ما يعني إنخفاض الأسعار من جديد. أضف إلى ذلك زيادة إنفاق الدولة على التنقلات التي يقوم بها الموظفون (وزارات، قوى أمنية، إدارات عامة).

(٢) ارتفاع الفاتورة الحرارية على المواطن اللبناني والذي سيرى كلفة النقل أكبر وأسعار التكسيات وباصات المدارس وفواتير المولدات الخاصة أعلى. كلّ هذا سيؤدّي إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني وبالتالي تراجع مداخيل الدولة اللبنانية من عائدات الضريبة على القيمة المُضافة.

الإستحقاقات الدستورية

كلّ اللبنانين يحملون آمالاً على العهد الجديد لإقرار قانون إنتخابي عادل يتمّ من خلاله إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها المُحدّد هذا العام. لكنّ إجراء هذا الإستحقاق الأساسي في حياتنا الديموقراطية له كلفة عالية وسيُشكّل عجزاً إضافياً في موازنة الدولة اللبنانية.

بالطبع لا يجب فهم أننا لا نريد الانتخابات، لكن بغياب الموازنة العامّة لم يتمّ رصد الأموال اللازمة لهذه الانتخابات وبالتالي فإنّ تأمينها سيكون عشوائياً ونتاج الساعة - أي الإستدانة.

هذه العوامل أكيدة وتداعياتها المالية أكيدة (يُقدّر العجز في العام ٢٠١٧ بأكثر من ٧ مليارات دولار أميركي) وبالتالي يجب العمل على تدارك هذه التداعيات مُسبقاً.

أصبحت حكومة الرئيس تمّام سلام حكومة تصريف أعمال وبالتالي لم تعد تعقد إجتماعات أسبوعية. ومع تأخّر تشكيل حكومة الرئيس الحريري، يُطرح السؤال عن أسباب عدم اجتماع حكومة الرئيس تمّام سلام؟ أليس الشق المالي وضروراته يدخلان في نطاق تصريف الأعمال؟ أهناك ضرورة أكبر من ضرورة إيجاد حلّ للتحدّيات المالية للعام ٢٠١٧؟ وماذا إذا تأخر تشكيل حكومة الرئيس الحريري؟

بإعتقادنا أنّ الحكومة ترتكب خطأً كبيراً بعدم البتّ في الموضوع المالي للعام ٢٠١٧ وبالتالي فإنّ المُشكلة ستتفاقم وسيكون حلًها أصعب حيث سترث حكومة الرئيس الحريري كرة نار قد تحرق العديد من الأصابع.

دور مصرف لبنان

ككلّ إستحقاق مالي، يظهر مصرف لبنان بشخص حاكمه رياض سلامة كمُنقذ للوضع. لكن ما هو المطلوب من مصرف لبنان اليوم؟

المعروف أنّ رياض سلامة يُمسك القطاع المصرفي بيدٍ من حديد، وقد يعمد إلى الضغط على المصارف لإقراض الدولة اللبنانية المبالغ المطلوبة في العام ٢٠١٧. لكن هل ستقوم المصارف بهذا العمل من دون مُقابل؟ بالطبع لا، لأنها ستطلب رفع الفوائد بحكم أنّ مخاطر الديون السيادية إرتفعت.

وفي حال نجح حاكم مصرف لبنان بالضغط على المصارف، فإنّ هذه الأخيرة لن تعمد إلى إقراض المبلغ بالكامل للدولة اللبنانية. وهذا النقص سيقوم حاكم مصرف لبنان بتمويله من خلال هندسة مالية جديدة أو من خلال شراء سندات خزينة مباشرة من الدولة اللبنانية.

وهذا الأمر قامت به مصارف مركزية كثيرة على مثال الإحتياطي الفديرالي الأميركي أو الأوروبي أو البريطاني، وبالتالي ليس من الخطأ أن يقوم به مصرف لبنان كعمل إستثنائي.

في كلّ الأحوال نرى أنّ على حكومة الرئيس تمّام سلام عقد جلسات وزارية برئاسة الرئيس العماد ميشال عون وحضور الرئيس المُكلف سعد الحريري وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لمناقشة هذا الموضوع الذي له أبعاد سيادية ووجودية أكبر بكثير ممّا يتخيّله العديد من أصحاب القرار.

(بروفسور جاسم عجاقة - الجمهورية)