قرأت كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» منذ أكثر من عشر سنوات. ووجدت فيه نافذة تطل على مبادئ التشيع كما زرعها ورعاها الإمام جعفر الصادق. لقد أراد الكاتب وفيلسوف الثورة الإيرانية المرحوم علي شريعتي أن يكون كتابه هذا مرجعا للمسلمين جميعا. فكان شريعتي مؤمنا نقيا متساميا على أي تقسيم طائفي. لقد أراد شريعتي أن يكسر هذا الحائط الطائفي البغيض، الذي بنت جداره الدولة الصفوية التركية الاثنية؛ ليميزها عن السلطنة العثمانية التي تبنت المذهب السني. فلتميز السلطنة الصفوية التركية عن منافستها التركية الأخرى العثمانية لم تتبنَ المذهب الشيعي فقط، وإنما صنعت تشيعا غريبا. آنذاك كانت إيران ما زالت سنية، بل إن كثيرا من أئمة السنة ومراجعها يرجعون إلى أصول فارسية. وعلاقة الفرس بالإسلام تتعدى كونهم مراجع دينية لدى السنة. فالتراث الأدبي العلمي والفلسفي والتاريخي للمسلمين مزين بمآثر العلماء والأدباء والشعراء والمؤرخين الفرس. فهل يمكن أن نتخيل نحن العرب تراثنا من دون سيبويه وبشار بن برد والحسن بن هاني (أبي نواس) والحسن بن الهيثم والفارابي. وهل يمكن أن ننسى فضل صاحب الرسول – سلمان الفارسي – ليس في اقتراحه في حفر الخندق حول المدينة لصد هجوم قريش فقط، وإنما في تقديمه أمورا فقهية ورؤيوية للإسلام والمسلمين.
لقد كانت بداية تعرفي على كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» عندما أهداني إياه المرجع الديني الشيعي العروبي العواطف والإنساني الثقافة المرحوم هاني فحص.
خلال السنوات العشر الماضية، نشرت عدة مقالات حول هذا الكتاب في القبس و«النهار» اللبنانية و«الحياة». كان هدفي أن أقدم هذا الكتاب المبدع للمسلمين، شيعة وسنة. فهذا الكاتب متعلق بآل البيت، وقلبه ينبض بحبهم والولاء لهم، ورؤيته للتشيع متطابقة مع رؤية الأئمة الأوائل، خصوصاً مع الإمام جعفر الصادق الذي تتلمذ على يده ابو حنيفة. هذا وقد أحضرت نسخا عديدة من هذا الكتاب من بيروت إلى أن لاحظت أنه نفد من جميع مكتبات لبنان. وتواصلت مع أكثر من مكتبة في بيروت من دون جدوى، ففكرت أن أتصل بالناشر وأطلب منه إصدار طبعة جديدة. ولتشجيعه، أوصلت رسالة له باستعدادي الدفع مقدما لحوالي ثلاثمئة نسخة من هذا الكتاب. وأخبرت وسيطا خبيرا بالنشر وسوق الكتب في بيروت. وفوجئت بأن الناشر كان يتجنب الرد على الوسيط الذي أخبرته. فكان أن تحدثت مع صاحب مكتبة يتميز بثقافته ورؤيته المتفتحة المستمدة من تاريخه القومي السوري. وإذا به يخاطبني: «يا دكتور حامد.. نحن نعرف أنك تحاول أن تحصل على نسخ إضافية من هذا الكتاب، لكن أود أن أخبرك أن هذا الكتاب أصبح من المحرمات، وأنت تعرف ماذا أقصد».
إن الوضع الطائفي في منطقتنا أصبح مزريا، لدرجة هيمنة تنظيم على الوضع في لبنان أصبح يمنع نشر كتاب لا تمنع نشره الدولة اللبنانية. لقد أصبح وضعنا مثيرا للشفقة، أصبح تديننا ذا وقع طائفي، وأصبحت صلاتنا طائفية. لا أعرف ماذا حل بنا! ربما علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا الإيمانية. أن نفكر في تجديد أفكارنا. وفي هذا المجال أقتبس من كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» ما ورد في مقدمة كتبها آية الله السيد محمود الطالقاني، ذكر فيها أنه «جاء رجل إلى الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، وهو مضطرب، فخاطب الإمام: يا ابن رسول الله، هلكت. فسأل الإمام: وماذا حدث؟ فأجاب: إني شككت بوجود الله، فهدأ الإمام من روعه، وبدلا من تكفيره أو طرده، قال له: الله أكبر، هذا أول اليقين، فالله الذي عرفته وعبدته من قبل كان صنيعة خيالك وأوهامك، كان صنما صنعته أنت، ليكون آلة بيدك تستخدمها لمصلحتك. الآن شككت بذلك وحطمت ذلك الصنم. وقد بقي عليك أن تواصل طريق اليقين لتصل إلى الإيمان الصحيح».
أرجوكم، لا تكفرونا، اعطونا الفرصة أن نكتشف طريقنا إلى الإيمان متجاوزين الخنادق الطائفية. نريد أن يكون إلهنا مرجعنا ومرشدنا إلى حب الرسول وصحابته جميعا إلى المسلمين والبشر أجمعين. ولا تحددوا لنا مسارا واحدا للتقرب إلى الله واسمحوا لنا أن نتمعن بما جاء في كتابه العزيز من قوله «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيِمٌ» (النور: 35).
د. حامد الحمود