«اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار» في إيران كان استثنائيا، في الدعوة إليه، وفي التظاهرة التي نُظّمت، وفي الخُطَب والتصريحات التي سبقته ولاحقته وتابعته بعد انتهائه. هذا «اليوم»، استحدث للاحتفال بذكرى «احتلال وكر الجواسيس الأمريكي»، أي السفارة الأمريكية، في الرابع من نوفمبر من العام 1980. 

المرشد آية الله علي خامنئي جمع الطلاب وخطب فيهم، مشددا على أن «أمريكا تسعى إلى إعاقة تقدّم إيران وتطورها، وأن الإمام الخميني أصاب عندما وصف احتلال السفارة الأمريكية بالثورة الثانية»، فما كان من المتظاهرين الذين تجمعوا أمام السفارة الأمريكية إلا الهتاف «الموت لأمريكا. الموت لإسرائيل»، وكأنّ شيئا لم يتغيّر في إيران، مع أن التغيير كبير وشامل وعميق، أنتج وينتج تراجع الثورة وفكرها في المجتمع خصوصا الشباب الإيراني، وتقدم الدولة ومجتمعها المدني والالتزام بمساراتها ومؤسساتها داخليا وخارجيا.

أمام هذا التحول، يبدو «الخطاب الخامنئي»، محاولة جادّة لاستعادة الماضي «الثوري»، لدعم مواقعه ومعه كل التوجه المحافظ المتشدد، إلى درجة لو أنه ينجح في إقامة «ثورة ثالثة» لَما تأخر، لأنها قد تساعده على إزاحة المعتدلين والوسطيين، 

كما أزاحت وقضت «الثورة الثانية» على كل المعتدلين والليبراليين واليساريين وفي مقدّمهم أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران، ولا شك في أن الإيرانيين يعرفون اليوم بتفاصيل استثمار «المعمّمين» الخطاب المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا احتلال السفارة الأمريكية وما كشفته وثائقها التي أعيد جمعها وترتيبها بعد أن مزّقتها آلات القطع الخاصة، في إنجاح هذه «الثورة الثانية». لا شك في أن تحول قيادات منها سعيد حجاريان وعباس عبدي من قيادة «طلاب خط الإمام» الذين احتلوا السفارة، إلى أقصى تيار الاعتدال والمطالبة بإقامة العلاقات بواشنطن، بعد ربع قرن تقريبا يؤكد الوعي المتأخر بأنهما كانا إلى جانب مجموعات طلابية ثورية «أدوات ثورية» لتعزيز سلطة رجال الدين المعمّمين.

محاولة خامنئي ومن معه خصوصا من قادة «الحرس الثوري» لإشعال «ثورة ثالثة»، لا تبدو مؤهلة للنجاح، لأن الظروف اختلفت، ولأن طبيعة المجتمع الإيراني وخصوصا الشباب منه قد تغيّرت بالعمق وليس على «السطح» والمظاهر!.

عندما وقعت «الثورة الثانية»، كان المدّ الثوري في أقوى حالاته وإلى درجة أنه عندما اشتعلت الحرب الإيرانية – العراقية التحق مئات الآلاف من الشباب بالجبهة، وأقدموا على تفجير أنفسهم بالمئات لتدمير التحصينات العراقية.

اليوم، هذا الشباب يعيش أزمة عميقة فهو يريد أن يحيا مثل كل الشباب في العالم، وأن يخرج من حالة البطالة والتضخم والحروب الخارجية التي تعمّق أزماته الداخلية، وفي الوقت نفسه يبدو وكأنه واع للصعوبات التي تواجه حركاته التغييرية التي وإن بدت محدودة، فإنها كما يبدو تحفر عميقا داخل المجتمع الإيراني.

الرئيس حسن روحاني، كشف بنفسه واقع هذه الأزمة عندما قال مؤخرا: «إن معدل الاكتئاب لدى الشبّان الإيرانيين مقلق». كشف أسباب هذا «الاكتئاب» لا يتطلب جهودا ضخمة، فالشباب يكتئب لأنه لا يرى مستقبلا له يساعده على الأمل بالنجاح.

الدليل القاطع على الانتشار العميق للأزمة وللاكتئاب تجسّد في ما كشفه وزير العلوم والبحوث والتكنولوجيا محمد فرهادي إذ قال: «إن الجامعات تشهد نقصا في الطلاب.. لقد انخفض التسجيل إلى درجة أنه يوجد في الجامعات 600 ألف مقعد شاغر.. وانه توجد جامعات لديها أقل من 50 طالبا»... هذا الانكفاء عن طلب العلم في الجامعات العلمية هو نتيجة طبيعية لسؤال يطرحه طالبو العلم هؤلاء: وماذا بعد الحصول على الشهادات غير البطالة»؟.

إلى جانب هذه الحالة، فإن «إيران تشهد ما يطلق عليه التهديد المركب من التهديدات الناعمة والأمنية». من وقائع هذه «التهديدات»، الاحتفال الشعبي بـ»قورش»، الذي شارك فيه 80 ألفا حسب «اليوتيوب» المسرّب، أوقف على أثره 12 شخصا بينهم الشاعر محمد رضا بيام. وقد تحول الاحتفال من استذكار «قورش» أكبر وأقوى شاهات إيران (كان الشاه محمد رضا بهلوي قد أقام احتفالا تاريخيا حضره عشرات الملوك والرؤساء لمناسبة مرور 2500 سنة على حكمه)، إلى الهتاف: «لا غزة ولا لبنان حياتي فدا إيران» وهو الشعار الشعبي للقوى الإصلاحية. وقد تبع ذلك مقال ظهر في الوكالة الرسمية «إرنا» يدعو إلى تخصيص يوم للاحتفال بـ«قورش».

الظاهرة الأخرى الخطيرة، أن نوابا ينطقون بالتركية من مجلس الشورى، شكّلوا تكتلا برلمانيا سمّي «تكتل المناطق التركية» حضر اجتماعه الأول مئة نائب. ولم تصدر من السلطة الإيرانية ردة فعل على هذا الإعلان، علما أن المرشد خامنئي هو آذري، أي أنه ينطق باللغة التركية.

ولكن مثل هذه الكتلة إذا اكتملت ولادتها، خطيرة جدا لأنها تفتح الباب أمام دعوات لتشكيل تكتلات ناطقة بالكردية والعربية والبلوشية، وبذلك تسقط المقولة الأولى للثورة «أن الإسلام يجمع كل التوجهات القومية ولا داعي لتتمظهر في تجمعات أو أحزاب.»..

في مواجهة هذه المخاضات والتحولات، فإنّ قادة «الحرس الثوري» الذين يعرفون أنه كلما تقدم تيار الدولة وتراجع تيار الثورة في البلاد فإنّ سلطتهم تنكمش، وانغماسهم يضعف ويتراجع في الاقتصاد الإيراني والإمساك بمواقع القرار، لذا يصعّدون من تهديداتهم وتضخيم القوة العسكرية لإيران التي «لعبت دورا في انهيار محور الاستكبار كما يقول العميد سلامى»، وأن إبرام الاتفاق النووي كما يقول العميد جلالي «تحقق بفضل قوة إيران التي وصلت إلى مرحلة الردع الكامل».

ما يريده ويعمل له «الحرس الثوري» له قصة ووقائع أكبر وأوسع....