كل شيء بدا هادئًا ومنسقًا ويكاد يخلو من أي شائبة تُذكر. أطل الرجل بعد صمت طويل وفي جعبته مطالعة وجدانية حول المراحل الأساسية التي طبعت سيرته السياسية والوطنية. عدّد الأسباب الموجبة. قدّم خلاصة موجزة عن الاتفاق. وأعلن تأييد ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية. بلا خطأ أو ابتسامة تجرّع كأس السمّ، وكأنه يقول لنا ولعموم الحاضرين والغائبين: ها قد أديت قسطي للعلى، وأقدمت مرغمًا حيث أحجم الآخرون.

لا شك أن الخطوة برمتها ستبقى محط مد وجزر طوال الفترة المقبلة، طبعًا لا حاجة هنا لنقاش الترشيح بحد ذاته، كونه مفهوم ومتوقع، لكن اللافت تمثل في عدم الرد على الكلام الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله حول رئاسة الحكومة، سيّما وأن الأخير أمعن في التركيز على هذا الجانب الذي أهمله الحريري في مطالعته، مشيرًا إلى أن الحريري طلب موافقة حزب الله على رئاسته للحكومة، وقد حازها بصفتها تضحية كبرى يُقدمها الحزب على مذبح هذا الاتفاق.

يشعر سعد الحريري بغصة كبيرة لحظة الحديث عن الضمانات التي تتعلق برئاسته لحكومة العهد الجديد. حدث ذلك مرارًا عقب ترشيحه لسليمان فرنجية. قال أنا لا أسعى إليها، ولا أريد ضمانات من أحد. هذا واقع تحدده الاستشارات والكتل لحظة الوصول اليه. لكن ثمة من يصرّ على مقارعته بالسيرة عينها: أنت تلهث خلف أي تسوية تحفظ موقعك في السلطة. لا أكثر ولا أقل.

كان من المفترض أن يرّد سعد الحريري بشكل حازم على هذا الكلام, وهو مطالبٌ بتوضيحات شاملة في إطلالته المقبلة. هل طلب بالفعل ضمانة حزب الله؟ وإن كان كذلك, فهل يستوي السؤال المركزي الذي أطلقه في مقدمة إنعطافته: ماذا عسى رفيق الحريري كان فاعلًا، لا سيّما بعد الكلام المهين الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله؟ هل كان ليصمت وكأن شيئًا لم يكن؟ هل كان سيبادر أساسًا إلى حجز موافقة الحزب على مستقبله السياسي قبل الشروع في تقديم مبادرته الوطنية والانقاذية؟

في مقالته الأخيرة، استعاد عقل العويط جانبًا مُشرقًا من تاريخ الراحل ريمون إده، ذاك الضمير الوطني الكبير. قال: عُرِضت عليه الرئاسة أكثر من مرّة، فنظر إليها من منظار مواصفاته ومبادئه، ومن علياء كرامته، فلم يجد بدًا من أن يبصق عليها. وقد بصق بالفم الملآن، وعلى مرأى ومسمع من الجميع في الداخل، كما في الخارج القريب والبعيد.

لا بدّ، ربما، أن يعلن سعد الحريري في إطلالته التلفزيونية المرتقبة عدم رغبته بالترشح إلى رئاسة الحكومة قبل الانتخابات النيابية. هكذا يكون الرد مزلزلًا على تضحية حزب الله الكبرى. وهكذا نبادر بكرامة رغم الجراح. لا نريد منّة من أحد. ولا نسعى لتسوية مذلّة. ما دون ذلك. ستذهب الكرامة، ومعها الكثرة الكاثرة من رفيق الحريري وجمهوره العاقل.

قاسم يوسف

بيروت أوبزرفر