لا يخفى على أحد أن اللبنانيّين مُنقسمون حيال انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في الـ 31 من الشهر الجاري. فهم يُبدون ارتياحاً لإنهاء الشغور الرئاسي ولاستعادة مؤسّسات الدولة حدّاً أدنى من الحيويّة أو الحياة، ويتمّنون أن ينعكس ذلك حماية لاستقرارهم وإن هشّاً ومعالجات وإن غير جذريّة لمشكلاتهم، وأن يُعزّز قدرتهم على انتظار الحلول في المنطقة. لكنّهم بقسم مهم منهم لا يشعرون بـ"السعادة" التي تغمر اليوم "البرتقاليّين والصفر وبعض الزرق" جرّاء الاتفاق على تحقيق الحلم الرئاسي لعون. هذا الانقسام موجود أيضاً عند "نواب الأمّة". لذلك لا يزال الذين يرفضون رئاسته يفكّرون في صوت عالٍ ويتشاورون حول أفضل السبل لإرجاء جلسة الانتخاب أو للحؤول دون حصول عون على الغالبيّة النيابيّة الدستوريّة التي تجعله رئيساً في الدورة الثانية. والأفكار التي يتداولونها كثيرة منها ما صار أقرب إلى الوهم والتخمين مثل مقاطعة الرئيس نبيه برّي الجلسة وخصوصاً بعد تأكيده قبل سفره إلى جنيف ومنها أنّه لن يعطّل النصاب ولن يصوّت لعون. كما بعد تأكيد السيد حسن نصرالله ذلك أخيراً وإصراره اليقيني على وحدة "الثنائيّة الشيعيّة" رغم الاختلاف في المواقف غير الاستراتيجيّة. ومنها أيضاً إقدام رئيس "كتلة اللقاء الديموقراطي" وليد جنبلاط على ترك الحريّة لأعضائها يوم الاثنين المقبل وذلك يجعل تصويت غالبيّتها ضد عون، أو على "قسمتهم" نصفين واحد يؤيّد عون وآخر يصوّت ضدّه. هذا موقف اتّخذه والده كمال جنبلاط في انتخابات الرئاسة عام 1970، وكان له الدور الأكبر في إسقاط مرشّح "الشهابيّة" حليفته وفوز منافسه سليمان فرنجية (الجدّ) عضو "تكتّل الوسط" وحليف كميل شمعون والشيخ بيار الجميل وريمون إدّه. وجنبلاط الإبن الذي اتّفق مع "حزب الله" على عدم الاصطدام السياسي الحاد والعسكري لن يلعب لعبة كهذه معه. ومن الأفكار أيضاً استعمال المال لاستمالة النواب إمّا لحجب الغالبيّة المطلوبة لانتخاب الرئيس عن عون وتالياً إرجاء الجلسة، واستئناف النشاط لـ"مودرة" رئاسته كما حصل مع الدكتور سمير جعجع قبلاً والنائب فرنجية، وإمّا إحداث مفاجأة تتمثّل بانتخاب فرنجية. والمال لعب غالباً دوراً مهمّاً في الاستحقاقات الرئاسيّة، حتى في ظروف كان "ممنوعاً" فيها سقوط المرشّح لأسباب تتعلّق بقوّة فريقه العسكريّة وبقوّة حليفها الإقليمي السياسيّة والعسكريّة. أمّا الآن، ورغم أن الظروف الراهنة تُشابه إلى حدٍّ ما الظروف التي تمّت الإشارة إليها، فإن الدور الذي يستطيع المال أن يلعبه لتغيير "ما كُتب" في الانتخاب الرئاسي ليس كبيراً، على الإطلاق، بل يمكن القول ليس مؤثّراً. ليس فقط لأن البعض قد يأخذه ويصوّت وفقاً للمتّفق عليه، بل لأن الواقع الراهن يُشير إلى عدم تجرّؤ أحد من الذين سينتخبون عون "قسراً" أو خلافاً لعواطفهم على قبض المال. أي سيذهب هباء، علماً أنه قد يزيد في عدد أصوات فرنجية المستمرّ في ترشيحه تسجيلاً لموقف شبيه ربّما بالعميد ريمون إده عام 1958.
طبعاً لا يعني ذلك كلّه أن إرجاء الجلسة الانتخابيّة الرئاسيّة مستحيل. فلا استحالة في الكون والعالم على الناس وعلى الله عزّ وجلّ. لكن الطارئ الذي يمكن أن يرجئها يجب أن يكون كبيراً لا قدّر الله. وساعتها لا يعود الاستحقاق ومعه رئاسة عون في خطر بل البلاد وبأكملها.
في أي حال لا بدّ في آخر هذه السلسلة من "الموقف هذا النهار" من الإشارة إلى أن انتخاب عون يوم الاثنين المقبل سيكون تكريساً لانتصار إيران الإسلاميّة وحلفائها على المملكة العربيّة السعوديّة في لبنان. وهو انتصار في معركة إذ أن الحرب طويلة ومساحتها المنطقة وأطرافها كبار العالم. طبعاً أسباب ذلك كثيرة لا يمكن الغوص فيها من دون الإساءة إلى كل منهما. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أهمّها وهو أن إيران "استثمرت" في لبنان منذ 1982 وحقّقت انطلاقاً منه أرباحاً هائلة محليّة وإقليميّة ودوليّة. أما المملكة العربيّة السعوديّة التي رعت لبنان منذ استقلاله وصرفت فيه الكثير، فإنّها لم تتصرّف بعقلية "الاستثمار" لأنّها لم تفكّر يوماً أن عدوّاً لها غير عربي كي لا نقول أكثر سيستثمر وينجح. فضلاً عن أن طريقتها في لبنان لم تكن منظّمة وعلميّة ومؤسّساتيّة بل عاطفيّة. علماً أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن مسؤوليّة اللبنانيّين وتحديداً حلفائها عن خسارتها لبنان في هذه المرحلة على الأقل تساوي إن لم تكن تفوق مسؤوليّة حكّامها. وعلماً أيضاً أن ظروفها الماليّة غير "المرحرحة" كما في السابق مسؤولة الآن عن تقبّلها الخسارة في صورة غير مباشرة.