إن من القضايا التي كانت محورا للجدل بين البشر على امتداد التاريخ قضية الخلق والرزق ، هل هما محصوران بالله تعالى، فلا خالق ولا رازق غيره ، أم أن الله أذن في الخلق والرزق لغيره من الملائكة والانبياء والأولياء، والإسلام امتاز عن غيره من الديانات، أنه دعى الى توحيد الله في الخالقية والرازقية ، وأنه ليس لله شريك وشبيه في هذه الصفات، كما أن الإسلام نفى فكرة التفويض من الله تعالى لغيره في الخلق والرزق. وانهما لا يطلبان إلا من الله بالدعاء والمسألة.
وحاول البعض تصحيح فكرة التفويض، والإدعاء أن التفويض ينقسم الى قسمين منه ما هو صحيح ومنه ما هو غير صحيح، والصحيح هو ما كان بإذن الله ( بمعنى أن الله أقدر غيره) وغير الصحيح ما كان بغير إذن الله، وفي الحقيقة والواقع أن هاتين الفكرتين تؤديان الى نفس النتيجة في جعل لله شريك سواء كان بإذن الله أم لم يكن بإذنه، فالشريك شريك، وهذه شبهة، فالإذنية هنا ( بمعنى الإقدار ) لا ترفع الشراكة، مع أن الإسلام قد رفض مطلق الشراكة لأحد مع الله في الخلق والرزق لذا لا يصح تفسير الإذنية ( إذن الله) بالإقدار، والتفسير الصحيح لإذن الله هو علمه وارادته، كما سنشير الى ذلك فيما يأتي.
ونفت آيات كثيرة في القرآن معنى التفويض، منها قوله تعالى : (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون "22") سورة البقرة. نهى الله تعالى في هذه الآية عن جعل أندادا له أي أمثالا في الخلق والرزق. وهذا النهي هو إبطال للقول بالتفويض عاما كان أو خاصا. كما أن الشريك في الخلق والرزق لا يكون شريكا إلا مع الطلب للشراكة من قبل الطرفين، وهو مضمون التفويض الخاص الذي يكون بإقدار الله لغيره، فإذا كان الله تعالى ينهى البشر عن جعل شركاء له فكيف يقدر غيره على الشراكة.
ثم إنه عندما ينسب الله فعلا له يلزم أن يكون قد وقع هذا الفعل منه مباشرة وليس بالواسطة وخاصة مع عدم وجود قرينة ودليل. ومعاجز الأنبياء حينما نسبها الله الى إذنه ( وهو بمعنى ارادته وقدرته ) لزم أن تحصل هذه المعاجز مباشرة منه، كما هو مقتضى ظواهر الألفاظ، وليس بمعنى أن المعاجز حصلت من الأنبياء بقدرتهم حتى يستفاد منها التفويض الخاص لهم من قبل الله.
والمقصود بإذن الله هو إرادته وقدرته وليس إقداره، قال شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي في التبيان قدس سره في تفسير بإذن الله أنه من فعل الله أي قدرته، فإنه قال في تفسير قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران 49) : (وإنما قيد قوله: " فيكون طيرا بأذن الله " ولم يقيد قوله: " أخلق من الطين كهيئة الطير " بذكر إذن الله لينبه بذكر الاذن أنه من فعل الله دون عيسى. وأما التصوير والنفخ، ففعله، لأنه مما يدخل تحت مقدور القدر، وليس كذلك انقلاب الجماد حيوانا فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه تعالى. وقوله: (وأحيي الموتى بأذن الله) على وجه المجاز إضافة إلى نفسه وحقيقته ادعوا الله باحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون باذنه.) (التبيان ج2 ص468 ) .
وقال الشيخ الطبرسي في تفسيره بإذن الله أي بقدرته فإنه قال في تفسير قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران 49) : (﴿أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير﴾ معناه وهذه الآية أني أقدر لكم وأصور لكم من الطين مثل صورة الطير ﴿فأنفخ فيه﴾ أي في الطير المقدر من الطين وقال في موضع آخر فيها أي في الهيأة المقدرة ﴿فيكون طيرا بإذن الله﴾ وقدرته وقيل بأمر الله تعالى وإنما وصل قوله ﴿بإذن الله﴾ بقوله ﴿فيكون طيرا﴾ دون ما قبله لأن تصور الطين على هيئة الطير والنفخ فيه مما يدخل تحت مقدور العباد فأما جعل الطين طيرا حتى يكون لحما ودما وخلق الحياة فيه فيما لا يقدر عليه غير الله فقال ﴿بإذن الله﴾ ليعلم أنه من فعله تعالى وليس بفعل عيسى ). (مجمع البيان ج2 ص 298).وعليه فالمقصود بإذن الله هو إرادته تعالى وقدرته، فالمعاجز لم تقع من الأنبياء بتفويض الله وإقداره لهم بل وقعت بقدرة الله ومشيئته .
وأما الاستشهاد بتدبير الملائكة على أنهم يخلقون ويرزقون حيث قال تعالى : ( فالمدبرات أمرا) (سورة النازعات 5) ، فهو استشهاد في غير محله، وقد جاء في تفسير الأمثل : (والمدبرات من التدبير ، وهو التفكير في عاقبة الاُمور، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.) أي تنفيذ الملائكة لآوامر الله على النحو الكامل والتام كما وصفهم في سورة الأنبياء، حيث قال تعالى : (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (الأنبياء 27) وليس في الآية دلالة على التفويض في الخلق أو الرزق. ومن خلال ما تقدم تبين معنا أن الخلق والرزق من الصفات المختصة بالله تعالى التي لا تعطى ولا توهب.
حديثنا المتقدم هو خارج مسألة الخلق والرزق بالدعاء من الله تعالى
إما مسألة الخلق والرزق بالدعاء من الله تعالى، فهو أمر جائز، لا إشكال فيه وحث الله تعالى عليه في القرآن، وندب إليه العباد أن يسألوه تعالى من فضله الواسع، قال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60)) غافر. ومن خلال ما تقدم ندرك سر محاربة أهل البيت عليهم السلام للقول بالتفويض في الخلق والرزق لأنه يلزم منه الشرك، وحصروا عليهم السلام التفويض في تبليغ الرسالة، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام، حيث جاء عن ياسر الخادم أنه قال: قلت للرضا (عليه السلام): ما تقول في التفويض؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) امر دينه فقال: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فأما الخلق والرزق فلا ، ثم قال (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: (الله خالق كل شيء) ويقول: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون)) بحار الأنوار ج17 ص 7، فالإمام نفى التفويض في الخلق والرزق للنبي وأهل بيته بمعناه الخاص، وابقى على معنى واحد للتفويض، وهو التفويض في الهداية الى دين الله.

الشيخ حسين اسماعيل