يعرف الخبير والدبلوماسي الأميركي جون برينان، الدبلوماسية بأنها “عملية الاتصال بين الحكومات”، ويعتبرها الدبلوماسي البريطاني السير أرنست ساتو بأنها “استعمال الذكاء والكياسة في إدارة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول”، فيما يصفها أستاذ القانون الفرنسي، بول برادييه فوديريه، بأنها “فن تمثيل السلطات ومصالح البلاد في الخارج”. لكن، لا يبدو أن هذا الفن تتقنه حكومة العراق، إحدى أعرق الدول العربية وأكثرها تجذرا في الممارسة السياسية، التي تسببت في تهاوي علاقته مع الأجوار والمحيطين إلى أسوأ درجات التأزم.
لا خلاف في أن التوتر في العلاقات الدبلوماسية يبدو أمرا طبيعيا ومعتادا في سنن العلاقات السياسية بين الدول، إذ تشهد العلاقات مدا وجزرا وفق المصالح التي تحددها متغيرات زمنية وسياسية واقتصادية واستراتيجية، إلا أن المثال العراقي يذهب إلى فضاء آخر لا علاقة له بالخلافات التي تندلع وتبرز بناء على تضارب المصالح أو دفاعا عن سيادة دولة أو ذود عن تراب. تستمدّ المشكلة الدبلوماسية في النموذج العراقي من كون حكّام بغداد بعد 2003 لا يرون غير الطائفة، التي تستمدّ “شرعيتها” من طهران، التي تدعمهم عسكريا وماديا لحمل راية التشيع السياسي.

بالإضافة إلى كون المؤسسة الدبلوماسية خضعت وبشكل كامل لنظام المحاصصة الطائفية وتوزيعاتها القائمة على حسابات ثقل الكتلة في المشهد السياسي الداخلي المأزوم دائما، والذي انعكس بالتالي على مستوى كفاءة بعثاتها وضعف العمل السياسي في الخارج. بناء على ذلك، كان تعاطي حكام العراق الدبلوماسي مع الأجوار والأقليم محكوما بالنظر الطائفي أولا، وبإملاءات “المستعمر” الشيعي ثانيا، وقد حدّدت هذه الأبعاد شكل وملامح علاقات العراق مع دول الخليج العربي ومع بقية الإقليم.

تعاطي حكام العراق الدبلوماسي مع الأجوار ودول الأقليم محكوم بالنظر الطائفي وإملاءات الداعم الإيراني
ويكفي أن تختلف إيران مع أي قطر عربي أو غير عربي، وحتى مع حزب سياسي أو مسؤول دبلوماسي، لكي تشحذ الأسلحة العراقية مناصرة للقضية الإيرانية، وتسوء العلاقات إن لم تقطع. ولاشك أن مطالبة بعض الأصوات العراقية مؤخرا بتغيير السفير السعودي لدى بغداد، لا تخرج عن هذا السياق الطائفي في تأصيل السيادة العراقية بعيدا عن الحياد الدبلوماسي.

بحكم هذه الطائفية، توترت العلاقات بين الرياض وبغداد قي الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى، وليست الأزمة التي استجدّت مؤخرا على خلفية طلب الخارجية العراقية من نظيرتها السعودية استبدال سفيرها لدى بغداد ثامر السبهان، سوى أحدث فصل في هذه الأزمة. أعلنت الرياض في شهر أبريل العام الماضي تعيين ثامر السبهان سفيرا للسعودية في بغداد، وهو قرار لم ينزل بردا وسلاما على إيران وممثليها في العراق، خصوصا بعد أن أعقب إعلان تعيين السفير افتتاح سفارة المملكة العربية السعودية في العراق، في ديسمبر 2015، بعد قطيعة دامت 25 سنة، ومباشرة السبهان لأعماله هناك.

وكان طبيعيا أن تثير هذه الخطوة قلق طهران، التي تعي جيدا الدور الذي يلعبه ذلك في تعزيز علاقة العراق دبلوماسيا وسياسيا مع محيطه العربي. كما أن الحملة على السبهان مردّها الاختيار الدقيق للرياض لسفير يحمل رتبة عسكرية ما يعني أن دبلوماسيته ستكون قادرة على مجابهة الدبلوماسية الإيرانية القائمة في جزء هام منها في الوقت الراهن على الميليشيات العسكرية، والتي يديرها في العراق، الجنرال الإيراني قاسم سليماني.

ومنذ مباشرته لعمله، انطلقت الحملات ضد السبهان وطلب التحالف الوطني الشيعي من رئيس الحكومة حيدر العبادي عدم الموافقة عليه؛ ووصل الأمر إلى حد التهديد بالقتل، ثم الطلب المباشر والرسمي من الخارجية العراقية لاستبداله. ورافقت ذلك تصريحات أطلقها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي والعديد من قادة حزبه في ائتلاف دولة القانون، استهدفت السعودية. وتم إطلاق حملات إعلامية وسياسية منظمة قامت بها أحزاب وتنظيمات وشخصيات سياسية ومؤسسات إعلامية رافضة لمبدأ عودة العلاقات العراقية مع السعودية إلى وضعها الطبيعي.


العبادي فيشل في ردع صوت الطائفية الذي مزق البلاد
وجاء انتقاد وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري في وقت سابق، لتصريحات أدلى بها السفير السعودي، واصفا إياها بالتدخل الصارخ في الشأن العراقي الداخلي على ضوء مطالبة السبهان الحشد الشعبي بترك مقاتلة ما يسمى بتنظيم داعش للجيش العراقي والقوات الأمنية العراقية تجنبا لتأجيج التوترات الطائفية، امتدادا للحملة السياسية ضد التواجد الدبلوماسي السعودي في العراق. ودفع هذا التصعيد أطرافا سياسية إلى إعلان مخاوفها والتصريح بخطورة محاولات إيران عزل العراق دبلوماسيا وسياسيا عن محيطه العربي وفقا لاستراتيجية إيرانية تفترض تابعيته وارتهانه لقراراتها، وتقوم على قطع كل الطرق نحو أي تحرك دبلوماسي مضاد لهذه السياسة.

وليست المرة الأولى التي يفقد فيها الجعفري المهارات التي يجب أن تتوفر في كبير الدبلوماسيين الذي يفترض أن يبحث ويدافع عن مصلحة وطنه أولا، ففي اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في شهر مارس الماضي، لم يتردد الجعفري في السير خارج السرب العربي مدافعا بكل ما أوتي من “طائفية” عن حزب الله وعن ضرورة وشرعية تواجد الحشد الشعبي في العراق، حين قال “الحشد الشعبي وحزب الله حفظا كرامة العرب، ومن يتهمهما بالإرهاب هم الإرهابيون”، وهو ما أدى يومئذ إلى انسحاب الوفد السعودي من الاجتماع، وهو ما دعا أيضا بعض المحللين إلى اعتبار الجعفري ينافس جواد ظريف على التمثيل الدبلوماسي لإيران.


التصعيد مع تركيا

لا يتوقف الفشل في العلاقات الدبلوماسية العراقية، بعد الغزو الأميركي للبلاد في 2003 فقط على العلاقات السعودية، بل ينسحب على سياسة العراق مع دول الإقليم الرئيسية الأخرى، من ذلك علاقته بتركيا. حاولت تركيا، خلال السنوات الأولى لسقوط نظام صدام حسين، فرض وصاية على العراق عبر بوابة الاستثمار والاقتصاد، وحقق الاندفاع التركي للتعاون الاستراتيجي مع العراق زيادة ملموسة في الصادرات التركية إلى البلاد، ووصلت العلاقة ذروتها سنة 2009 حين فتحت أنقرة قنصلية لتمثيل الدبلوماسية التركية في كل من البصرة وأربيل، لكن هذا التوجه التركي لم يكن متوافقا مع السياسة الإيرانية.

ورغم أن تركيا ظلت الشريك الاقتصادي الثاني للعراق بعد إيران، إلا أن ذلك لم يمنع التراجع الكبير في مستوى العلاقة الدبلوماسية بينهما، والتي وصلت أسوأ مراحلها، على غرار العلاقة مع السعودية، في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والذي صرح في العام الماضي بأن تركيا هي من تدعم تنظيم الدولة الإسلامية، فيما وصفت الخارجية التركية هذه التصريحات بـ”الهذيان”.

توترت العلاقة بين بغداد وأنقرة، التي توجّهت نحو إقليم كردستان العراق، الذي كان في أوج أزمته مع الحكومة المركزية، ما زاد من الخلاف الحاصل بسبب ملف طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي، المحكوم عليه بالإعدام غيابيا، والمقيم في تركيا؛ وأيضا بسبب الأزمة السورية، حيث يصطف العراق إلى جانب نظام الأسد، المدعوم من إيران، فيما تساند تركيا قوى المعارضة السورية.

وفي ردّ على الدبلوماسية العراقية تجاهها، تتهم تركيا العراق بانتهاج سياسة إقليمية غير متوازنة، تتضح من خلال قوة النفوذ الإيراني في الساحة العراقية على الصعيد السياسي والأمني والاقتصادي وحتى الديني والاجتماعي، ترافق ذلك حساسية يبديها الجانب التركي تجاه وجود محور إقليمي يشمل إيران والعراق وسوريا على حدودها الجنوبية. بموازة ذلك، تتجدّد الأزمة القديمة الجديدة حول مياه دجلة والفرات، والتي يدفع فيها العراق ثمن دبلوماسيته المتشنجة مع تركيا، والتي جعلته عاجزا عن إدارة ملف تحييد السيطرة المطلقة لأنقرة على مياه دجلة والفرات، وتعزيز صفة النهر الدولي العابر للحدود، ما يؤثر بشكل كبير على حصته المائية ويهدّد أمنه الغذائي.

عزل العراق عن محيطه العربي

يكفي أن تختلف إيران مع أي قطر عربي أو غير عربي حتى تشحذ الأسلحة العراقية مناصرة القضية الإيرانية
في مواقف أخرى فشلت الدبلوماسية العراقية في مسايرة الركب العربي والإقليمي، أو على الأقل اتباع سياسة عدم الانحياز مع أي طرف، من ذلك موقفها من عاصفة الحزم في اليمن وتصريح الجعفري بأن بلاده ترفض التدخل العسكري في الساحة اليمنية؛ كذلك الموقف من التدخل الإيراني في البحرين، حيث رفض الجعفري خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الإدانة الجماعية للتدخل الإيراني في الشأن الداخلي لدول المنطقة، والتي من بينها مملكة البحرين.

وفي خطوة حديثة لا تقل استفزازا رشّح العراق حبيب الصدر سفيرا له لدى دولة الكويت، خلفا للسفير محمد بحر العلوم، ووصفت تقارير إعلامية الصدر بأنه اليد الإعلامية الضاربة لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وقد عرف عنه موقفه العدائي تجاه دول الخليج العربي. وتوضح مختلف هذه الأمثلة، وغيرها من التصريحات التي ما انفك يطلقها السياسيون والدبلوماسيون العراقيون، في محاولات لإبعاد العراق عن محيطه العربي، شدة التباين تجاه العديد من القضايا الداخلية والإقليمية المشتركة ما بين العراق ودول المنطقة، لكنها تنبئ في الوقت ذاته، بفشل معلن للدبلوماسية العراقية في احتواء العديد من الأزمات مع دول الجوار، وتدهور العلاقة معها.

لم تشهد الدبلوماسية العراقية انحدارا أكثر مما تشهده اليوم، وقد يستحضر البعض أن العلاقات العراقية مع الجوار العربي قبل الاحتلال الأميركي لم تكن على أحسن ما يرام، لكن الفارق أن النظام العراقي ما قبل الاحتلال كان ينظر إلى العراق بوصفه وطنا لا طائفة، وكان يؤصل العراقيين بوصفهم شعبا لا أتباعا، ورغم أخطائه المجمع عليها إلا أنه لم ينزل إلى حضيض إدارة الدولة بمنطلقات مذهبية أفقدت الدولة سيادتها وعزلتها عن محيطها الإقليمي.

صحيفة العرب