إذا كان الحب هو الشرط الإنساني لفضيلة التسامح فإن التسامح هو الشرط الإلهي لفضيلة الحب الإلهي وتقوى الله.. وقد سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب ولأن فؤاد المسيح مسكون بروح الله.. جذبته المحبة إلى رؤية ما لا يُرى من حقيقة الأعداء.. وتفيض الرحمة من قلب نبي الرحمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتتسع لأعدائه«اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله».. ولأن التسامح فعل إيمان ومحبة كان مصباحه في القلب بعيداً عن أولئك الذين يعبدون الله بألسنتهم على حرف.. وفي وصية الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان  في قلبه لا تذموا.. ولا تتبعوا العورات .. 
والتسامح عاطفة لكنها عاطفة العقل المشبوب في القلب ومن أوتي فهم التسامح  فقد أعطي نعمة الحوار ، ومن شرح الله  صدره للحوار فقد أوتي خيراً كثيراً  وإحقاقاً للحق إذن ..
ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم  
والمستند القرآني لمفهوم التسامح مفتوح على مصطلحات القرآن في العفو والصفح والمغفرة   اعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين   عفا الله عما سلف..  فاعفوا  واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ..  ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ..   والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين  فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر   خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين   ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عـزم الأمور   قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله  الجاثية  قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى   وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم  
ونداء القرآن نداءٌ لتطهير العداوة بالمحبة  عسى الله أن يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم مودة   لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
وتكاد هذه النصوص القرآنية تطابق النصوص الإنجيلية في أصول المنهج الرباني لترويض غابة العداوات بالكلمة الطيبة أي بالحوار. ولكي لا يكون الدين مضخة لتثوير الفتن التاريخية والأحقاد التاريخية يقترح القرآن الكريم إخراج العقل الإنساني من موروثات الانحرافات القديمة فندرس عواملها لنصحح بالاعتبار بها الحاضر والمستقبل فلا نرتكب نفس الأخطاء أو نفس الحماقات التي ارتكبها الأقدمون  تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ..  
وفي مواجهة نوازع القطيعة التي اغتالت المعنى الإنساني ووجوده تحت شعارات التعصب والتكفير يقترح الإمام علي (ع) نظريته القرآنية «الناس كلهم إخوة فإما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
 والسؤال الآن، من الذي اغتال الإنسان في كرامته ومعناه؟.. ومن الذي زيف معنى الدين؟.. كأن لم يبق في مجتمعنا العربي سوى تلك التقاليد التي تمارس جرائم الثأر وجرائم الشرف باسم الدين فتُقتل الزانية ولا عار على الزاني لأنه ذكر.. ومن أكبر الجنايات على مصطلح دار الإسلام أن يتم تعريفه بالجغرافيا التي لا تحتمل التنوع والتعددية في اللغة والدين والقومية.. وإبان فتنة الحرب الأهلية الإسبانية ظهر على مسرح تأجيج الفتنة ما نسميه اليوم بالطابور الخامس وهم فرقة سرية كانت تعمل بالخفاء لتأجيج الفتنة كلما خمدت وتعمل بالخفاء على تدمير السلم الأهلي بترويج الإشاعات هنا وهناك على طريقة بعض الفضائيات العربية والأجنبية.. من هنا تكتسب هذه المقاربة أهميتها برد الاعتبار لثقافة المحبة والتسامح والحوار وبلغة السنة النبوية وسيرتها " كاد الحليم أن يكون ملاكاً  من الملائكة»
يخاطبني السفيه بكل قبح         وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد قباحة وأزيد حلـماً  كعود شفّه الإحراق طيبا
قد يكون التسامح محموداً وقد يكون التسامح مذموماً هذا ما قاله متكلم باسم الدين متفادياً بهذه البساطة مشكلة من أعقد مشكلات ما هو النسبي وما هو المطلق في مفاهيم الدين وشرائعه وأحكامه.. غير أن خبراء الحب الإلهي والدين الإلهي يواجهون هذا التبسيط بإزاحة الستار عن جوهرة الدين ما هي ؟ وعن معنى التدين أين هو..؟ 
بموجب الكتب السماوية جميعاً والتي تنزلت في شهر رمضان المبارك بوصفه المطلع الأول للدورة الفلكية الأولى التي شهدت ميلاد الإنسان في الزمان متوجاً بالتكريم الإلهي يوم عُرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. والأمانة فيما أفهمها هي المعرفة والمسؤولية والقيادة وبتعبير قرآني فإن الأمانة هي الاستخلاف لعمارة الأرض بالجمال الإلهي متجلياً في صورة الإنسان الإنسان.. ما يعني أن المركب الروحي - المادي لهذا الإنسان هي أسمى وأعلى من درجة وجود الكائنات الأخرى .. وكأن الإنسان مخلوق لذاته بينما الكائنات الأخرى فهي تصطف في سمائه وأرضه لأجل هذا الإنسان لتحقيق ذاته الإنسانية كمالاً وجمالاً على عين الله ورضاه .. 
والسؤال هل يمكن لهذا الإنسان - المثال - أن يحقق ذاته من غير معرفة ومن غير مسؤولية ومن غير تسامح ومن غير حوار ..؟ 
بصدد الإجابة عن هذا السؤال إجابة من وحي منهج الأنبياء والرسل - لا نفرّق بين أحد من رسله فإن الدين المنسوب إلى الله هو دين من أجل الإنسان لهدايته وتمكينه من القيام بأعباء الأمانة فتغدو المعادلة الكبرى أن الدين من أجل الإنسان والإنسان وسيلة لغاية أبعد منها هي تحقيق الكمال الإنساني تحقيقاً يفضي بعقولنا وقلوبنا إلى الْتماس فلسفة التدين بفتح محاراته كلها من آية المسيح المحبة إلى آية وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.. نستنطقها ونستجليها من فم خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وها هنا أي من فلسفة الأخلاق تنبعث الأسئلة المثيرة للجدل الجميل والجدل العقيم فلا يزال في المتكلمين باسم الدين رجال يدعون إلى تضييق دائرة الأخلاق على دوائر مذاهبهم وطوائفهم وتضيقاً يضيق ويضيق على دوائر مساجدهم وكنائسهم أو على دوائر حاراتهم ومؤسساتهم.. وبمعزل عن تلك الأقفاص المختنقة بثاني أوكسيد اللعن وثالث أوكسيد التكفير ورابع أوكسيد التخزين فإن السؤال الموضوعي: إذا كان روح الدين وجوهرته هي الأخلاق وإذا كان روح الأخلاق هو التسامح فكيف نضبط المسافة بين الحرب والأخلاق ـ بين السياسة والأخلاق ـ بين القانون والأخلاق ـ ولئن كانت الأصول الربانية لثقافة التسامح  من منظور قرآني متجذرة في فردوس الإخاء الإنساني وتكريم الإنسان وإشاعة قيم الحق والخير والعدالة والسلام لتشرق الأرض بنور ربها فإن إشكالية الاصطراع  والمواجهة مع أعداء الخير والعدالة والسلام ستظل مصدر قلق دائم للإنسان الباحث عن سلامه مع الله وسلامه مع أخيه الإنسان.

 


الشيخ حسين أحمد شحادة