التجربة التاريخية للأنبياء والصالحين الأولياء ، تحدثنا بأنَّ دعوتهم هي الهداية والإرشاد ، حتى ولو أدَّى الأمر إلى اتهامهم بالجنون تارةً ، وبالسحر والشعوذة تارةً أخرى..لأنه لا يمكن بصدقهم خداع الناس ، وأيضاً لا يسلكوا طريق ذات شوائب وشبهات ،التي تؤدي للمساءلة ، كما ورد عنهم " أمرٌ بيِّنٌ رُشُده فاتبعه ، وأمرٌ بيِّنٌ غيِّهُ فاجتنبه ، وأمرٌ بين أمرين فأرجئه ".. وأيضاً " في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ".. فغايتهم هي الهداية والعدل والمساواة وإرشادهم إلى الخير ، ولم تكن لهم غاية السلطة والنفوذ.. 
فلا يحسبني القارئ بأنني لا أعرف كثيراً ممن سلك هذا المسلك من العلماء المخلصين والعاملين منذ غياب صاحب النص إلى زماننا الحاضر ، ومن الذين دافعوا بإيمانهم ودراساتهم وبمواقفهم في الفكر الإسلامي عموماً ، وذبُّوا عنه الشكوك والبدع والأوهام والخُرَافات ، ومن الذين أخلصوا وقاتلوا بأنفسهم وأموالهم وأولادهم في سبيل نهج الأنبياء والصالحين....
لكن الإنصاف إحصائياً ماذا يمثِّل هؤلاء من حيث الكم والعدد بالإضافة إلى الذين يُعدُّوا بالملايين ، واكتظَّت بها القرون التي تمثِّل تاريخ الحركة العلمية والدينية عند السنة والشيعة على حدٍّ سواء..ولهذا حصلت الهوَّة السحيقة بين النظر الديني لرجال الدين ، وبين الواقع العملي والممارسة الفعلية..فكيف له أن يشبع هذا الضمأ لرجال الدين نحو الدين ، وفي الوقت نفسه ينأى به عن الرغبة في إشباع الجشع للبعض نحو المال والسلطة وحب الذات "الأنا".. 
لهذا لم يعد بشكل عام لصاحب العمَّة ذلك الرجل المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة ، ولم يعد الكثير منهم محط الرحال والتسامح والتبرُّك ، بل نراهم مجمعاً للدوغمائية  في الفكر والسياسة والسذاجة ، وعنواناً للإلتصاق بالمرجعية الدينية والسياسية ، والحرص على جمع المال والسعي من أجل المنصب والوظيفة ، فالأصل في هذا هو الفساد ، إلاَّ إذا بان خلافه..من هنا فأي خيرٍ من السياسة التي فرَّقتنا شِيَعاً، وصيَّرتنا فرقاً وأحزاباً، وقطَّعت أوصالنا، وألقت العدواة والبغضاء بين أبناء الأمة،وبين أبناء الملَّة الواحدة، بل وبين الرجل وأخيه، والجار وجاره، حتى ركب الرجل رأسه ومضى في سبيله، فتناكرت الوجوه،واستوحشت النفوس، وأصبحنا في ساحة حرب مع الأخوة والأصدقاء، لا نرى في السياسة إلا ناباً يقرع ناباً، وصدراً يغلي حقداً، بينما الدين هو خلاف هذه المخادع والأساليب، لأنه رحمة للعالمين..
فالثبوت في السياسة الدينية أصبح عنوان للخداع والغش والخيانة والغدر ، لأنَّ الذي يحمل دعوة الأنبياء لا يكون سياسياً يحمل الخداع ، وإلاَّ فهو جلاَّد ، ولا فرق بينهما كلاهما قاتل..
فالعلماء أشرف وأنبل من أن يدونوا المكايد والخداع لا في مشروع حزبٍ ولا في خطبة مسجدٍ لأنّ وظيفة رجل الدين والمصلح أن يملك عقلاً هادياً ، وقلباً حنوناً ، ونفساً عطوفاً على بنيه وقومه..بينما السياسي لا يكون سياسياً إلاَّ إذا ملك خداعاً ، وقلباً متحجِّراً لا يقلقه بؤس البائسين ولا تزعجه نكبات المنكوبين.