كتب الأمريكي ولتر ليمان في كتابه "عن الشعب الموهوم في القرن الماضي" : أن الشعب يكوّن آراءه السياسية بناء على ما يأتيه من أخبار" وبذلك يصح لنا القول إن القائمين على صناعة الخبر واستحواذه في عصرنا الراهن، هم القائمون فعلاً على صناعة تكوين الرأي العام، وتالياً على صناعة الديمقراطية. ومن المفارقات المؤلمة أن الأمة العربية ومنذ احتلال فلسطين لم تضع صورتها كما هي فلجأ المخيال الغربي إلى اختلاقها من منظوره الاستعماري فتم تثبيتها وتنميطها ليغدو التحدي بعد قرون لا في الاختلاف على طبيعة ملامح هذه - الصورة - وإنما على إرغامنا في أن نكون على شاكلة ما افترضوه لنا من توحش وتخلف وذلك بتفريغ المحتوى القيمي والأخلاقي من شخصنا وإفسادها فيما نراه من فساد دموي لا قبل لمجتمعنا العربي بجنونه ومجانينه. والسؤال: كيف نواجه لعبة هذه الحرب الجديدة في أبشع ما يراد من أغراضها العنفية والإرهابية لتدمير الجوهر الإنساني والأخلاقي من هويتنا وقد وصل الأمر إلى شفا حفرة من فقدان الثقة بالذات العربية وقيمها. كذلك لم يختلف العرب والمسلمون في شؤون صورتهم أمام أنفسهم وأمام العالم كما اختلفوا اليوم وقد بات مفهوم تكوين الرأي العام العربي والإسلامي من المفاهيم التي لا تعكس حقيقة الواقع لأنه محكوم في صناعته لأجهزة خارجية متخصصة بترويج الدعاية لأفكار وصور وقضايا لا علاقة لها بما يجري في مجتمعاتنا إلا بمقدار نسبي هو في أساسه من نتائج سنوات الاحتلال لأرضنا المستباحة. ومن هنا يأتي سؤال العلاقة بين الديمقراطية وبين الرأي العام سؤالاً يطال الهوية في صميمها فلم يعد صوت الناس هو صوتهم ولم يعد الإعلام هو إعلامهم لأن السواد من العامة يخضع في تكوين رأيه لتلك الإمبراطوريات الإعلامية التي توجه تفكيره بالأكاذيب والإشاعات لتجيء الديمقراطية مظهراً من مظاهر الاستجابة لتلك المصادر التي تعمل بالخفاء على تشكيل الوعي الزائف برموز القيم في الأشخاص والأحداث. وقد استفاد الإعلام الغربي لتحقيق هذه المهمة من خلال تفشي ظاهرة الأمية الفاشية بسابقة لا مثيل لها في الوطن العربي والإسلامي. وإذا كانت السياسة الغربية قائمة على قلب الأوضاع رأساً على عقب في الشرق الأوسط فإن الخطة الجاهزة التي تعينهم على ذلك هي التمهيد بقلب أوضاع القيم والمفاهيم والأخلاق، وهكذا استخدم الغرب ثورته المعلوماتية في مجالين: أحدهما: تزوير وعي الشباب لقضية انتمائهم وهويتهم وتحطيم مناعة الوعي بالمعايير والمصطلحات. وثانيهما: إيقاظ العصبيات الدينية من داخل مؤسسات ومذاهب لا تعرف عن بعضها إلا ما تصنعه لها تلك الفضائيات المتخصصة بتوتير العلاقة بين الدين والدين. وبذلك توطد خطاب - الفتنة - ليطل علينا من ظلمات القرون التي فتحت شهية الأحزاب السياسية والنخب الثقافية والدينية على توظيفها واستثمارها لصالح مشاريعها الفئوية الضيقة. ومن هنا بات التعبير عن مشكلات العالم العربي والإسلامي خاضعاً لهذه الأمزجة التي لا توافق أو تعترض على قضية من قضايانا الراهنة إلا من منطلق ذهنيات التعصب الطائفي والسياسي فلا نكاد نفهم على سبيل المثال انحياز البعض لرأي الأشرار إلا لأنهم من قومه على حساب خيار قوم آخرين. وكذلك ولم يعد معيار الحكم على الخطأ والصواب إلا استناداً إلى منزع عصبي لا يقيس الأمور إلا بمقياس العواطف والأهواء.. وإلا بمقياس التمييز الظالم بين الأقوياء والضعفاء. والسؤال كيف نواجه خطر هذه المقولبات في الفكر والدين والسياسة والإعلام ؟ وهل يمكن أن تنهض الديمقراطية في مجتمع أعمى وأبكم وأصم؟ وكيف نواجه ظاهرة الغزو الجديد بالأفكار والأخبار في أمة لا تملك مركزاً واحداً لتقصي الحقائق فتستعين الضحية بجلادها لاستبيان الوقائع المأزومة بطلب الحرية؟. وإذا كان لا بد من الحرية فإن أزمة الحرية الراهنة هي في سيطرة الغرب كله على وسائل الخبر كلها فلا يطلق علينا من الأخبار ولا يحجب منها إلا ما يروج لسياساته ومصالحه وأطماعه ولا شيء بأيدينا إلا أن نتلو من كتاب الله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " - [الحجرات: 6]. وعلى هذا المشهد المركب بكامل تعقيداته وملابساته لا يمكن أن نعفي أنفسنا من إرادة المواجهة والحياة في النهوض إلى تصحيح صورتنا على قاعدة نقد الذات العربية والإسلامية بموضوعية تردّ الاعتبار لقضية عقل الأمة بوصفه الشرط الموضوعي لإنجاز الحرية الواعية والديمقراطية الحكيمة، ودون ذلك عقبات وعقبات لا بد من اجتيازها بالإصلاح والتغيير: " إن اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " - [الرعد: 11]. والمفتاح الذهبي إلى ذلك أن نستعيد دورنا في تكوين الرأي العام في ضوء احترامنا لقدسية العلم النافع والمعلومة الصادقة: " وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " - [الإسراء : 36].

 

الشيخ حسين أحمد شحادة