أمامي نسخة من مقال العلامة السيد محمد حسين فضل الله تحت عنوان " خط البطل أو بطل الخط" الذي نشره في العدد 4-5 من مجلد 72 نيسان- أيار 1984 في مجلة العرفان يتهجم فيه على العقلية السائدة لدى الإسلاميين الشيعة بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 في تحويل الشخصيات القيادية إلى أصنام تُعبد وتطغي على النقد. يستحق هذا المقال دراسة معمقة وربما أكاديمية إذا نضعه في سياقه التاريخي، وسوف نتناوله نصاً ومضموناً وتاريخاً خلال حلقات.

يستهل العلامة فضل الله مقاله بالقول: "ربما كان من الظواهر التي تطبع المرحلة الحاضرة التي يمر بها المسلمون، بروز ظاهرة القيادات الروحية أو السياسية التي تتقدم في حركة الأمة في جهادها الكبير في مواجهة قوى الاستعمار أو في انظلاقتها الواسعة في تحرير واقعها من الهيمنة الداخلية الطاغية، وفي تأكيد وجودها على أساس إثارة لعناصر القوة الكامنة في داخلها في مواجهة نقاط الضعف".

من تحرير الجمهور إلى تعبيدهم

بعد هذا الاستهلال البارع يدخل السيد فضل الله في صميم الموضوع ليشير إلى الدور الحاسم الذي أدته تلك القيادات عبر تحريكها الجمهور وتحويل "حركتها الى نقطة تحول فكرية أو روحية أو اجتماعية أو سياسية لدى الناس الذين يمثلون القاعدة الواسعة لحركة الثورة او الانتفاضة .. مما أدى إلى حالة انفعالية حماسية هائجة فيما تعيشه جماهيرها من عواطف وفيما تثيره من أجواء وفيما تتحرك نحوه من أهداف..".

الشخصانية

وبنظرة تشخيصية يرى العلامة فضل الله أن الشخصانية هي أم الأمراض، إذ يحوّل الشخص إلى صنم يُعبد.

ويبقى الشخص - والكلام للسيد- هو كل شيء .. في خطاباته وتطلعاته ولقاءاته .. وآفاقه المتنوعة.. ليتحرك الناس معه فيما يشبه السحر الذي يوحي بالجو الحميم الخاشع الذي يتنامى في حركة المشاعر والعواطف ليصل بها إلى ما يشبه العبادة الشعورية في علاقة الناس به .. مما ينقل الجو من مشاريعه العملية إلى شخصه .. وفي خصائصه الذاتية .. وفي أولاده.. وعائلته.. وهكذا يتأكد الارتباط بالشخص.. ليكون هو القاعدة التي يجتمع الناس حولها، فيرتبطون ببعضهم من خلالها.. ويتسابقون إلى التعبير عن إخلاصهم لها، بالقصائد والكلمات التي تحمل الكثير من كلمات المبالغة وصيغ التفضيل، وتحول النجاح في جهة، إلى النجاح في جميع الجهات، حتى ليخيل إليك أنك تقف في ساحة الكمال المطلق الذي لا يقترب إليه النقص من أية جهة من الجهات .. وتبدأ عملية الصور التي تعلق في البيوت، وفي الصدور وفي كل مكان.. للتكليل على المساحة الواسعة التي يملكها هذا الانسان أو ذاك في حياة الناس، وفي حركة المصير.. وقد تتطور القضية لدى البعض، فيصنعون له التماثيل التي تنصب في الساحات العامة.. كأسلوب من أساليب التعظيم والتقديس.

رفض النقد

ويتابع السيد مقاله الاستراتيجي ليعالج المشكلة التي تستتبع الحالة الصنمية التي تتخذها الشخصية القيادية وهو تحويل الناقد إلى العدو والتساوي بينهما واعتبار النقد عداء والمحبة تعظيما. ويقول السيد: قد لا تخلو هذه الظاهرة- أي تقديس القائد- من حركة مضادة تحاول أن تثير علامات الاستفهام حول هذه القيادات فيما تثيره حولها من شكوك، وفيما توجهه إليها من اتهامات..

ولعل من الطبيعي أن تثير هذه الاساليب التي لا تتناسب مع الاحترام الذي يحمله الناس لهذه القيادات، بعضا ًمن السلبيات في الساحة التي لا تستريح للنقد، ولا تتفاعل معه لأنها لا تعتبره مظهر تقويم للشخص، أو محاولة لتصحيح الخطأ، بل تعتبره مظهر عداوة فيما يعتقده الناس من الفكرة التي توحي بالعلاقة بين المحبة والتعظيم وبين العداء والنقد.

من الولاء إلى الانتماء

ثم يتعرج السيد إلى أن هذه الجماعة التي أصبح الشخص صفة لها، تحاول تطوير مسألة الولاء إلى عملية انتماء.. وربما كان الانتماء - في بعض الحالات - منطلقاً من الطرف الآخر الذي يحاول أن يلصق بهذه الجماعة صفة الانتساب لهذا الشخص كأسلوب من أساليب الضغط عليهم أو لإبعاد الصفة الحقيقية عنهم، لأنها تشكل نقطة التحدي له. وقد يستريح هؤلاء لذلك، لأنهم يرون فيها شرفاً فيما يوحي هذا الشخص من عظمة وقوة.

وهكذا ينبهنا العلامة السيد فضل الله كيف يتحول الشخص إلى مركز ومحور ومعيار للفكر والخط وحتى الفكر والخط يتم اختزالهما في الشخص، حتى يصل الأمر إلى أن الشخص يمثل الفكر، " فإذا كان ينطلق من قاعدة فكرية معينة فإن الفكرة لا يمكن أن تتمثل في غيره، إلا من خلاله" وفي مرحلة مقبلة تتفاقم المشكلة إلى أن الفكر يأخذ شرعيته ومصداقيته من الشخص وليس العكس " وإذا كان يتحرك في خط معين، فإنه هو الذي يجسد هذا الخط تجسيداً حياً لا مثيل له.. وهكذا يبدأ البحث لديهم عن الخصوصية التي تفصلهم عن الآخرين .. وقد يزداد الاستغراق في هذه الخصوصية حتى يتحول الأمر إلى إغفال للقاعدة الأصلية .. وتأكيد للخط الخاص .. والفكر الخاص، كما لو كان فكراً منفصلاً عن الجذور.".

من الانتماء إلى تحويل القائد إلى الدستور

في تلك الحالة يبدأ المخلصون المنتمون إلى هذا القائد أ أو البطل " في عملية الاستنباط والاجتهاد من هذه الخطبة.. ومن هذا التصريح .. اللذين قد يكونان منطلقين من حالة انفعالية لا توحي بالكثير من الفكر.. ليفلسفوا هذه الكلمة .. وهذه الوقفة فيثيروا حولها الكثير من التحليلات والتأويلات التي تتمثل فيها قاعدة أساسية هنا.. وقاعدة فكرية هناك.. مما قد يمثل فكر المحللين، والمتفلسفين .. ولا يمثل فكر القائد من قريب أو من بعيد..

وهكذا يتنامى الاجتهاد والتحليل .. حتى نجد لدينا دستوراً مفصلاً لا نعرف مدى شرعية نسبته إلى هذا الشخص أو نسبته إلى الفكر الذي انطلق الشخص منه في منطلقات التحرك..".

وللحديث بقية