توهم السوفيات أن بتدخلهم الحاسم في أفغانستان، وتحقيقهم السريع لأهدافهم السياسية والعسكرية، أن انتصارًا تاريخيًا للشيوعية يلوح في الأفق! ولكن سرعان ما تبدد هذا الوهم بعدما تكشفت الوقائع الحقيقية للمشهد الأفغاني الذي واجهوه. واليوم لم يستغرق التدخل الروسي في سوريا الكثير من الوقت حتى اصطدم بالواقع السوري الصعب والمعقد، الذي سيفرض عليهم التخلي مبكرًا عن أوهام الانتصار السريع الذي روّج له في الأيام الأولى لتدخلهم العسكري، فكما دفع السوفيات ثمن الإمساك بالورقة الأفغانية، وحماية النظام الذي نصبوه في كابل، فإن الكرملين بدأ يستشعر الكلفة الباهظة لتدخله المباشر من أجل حماية ما تبقى من نظام البعث، مدركًا أنه قد يدفع ثمنًا كبيرًا جراء إصراره على الإمساك منفردًا بورقة الأسد.

كان على السوفيات أن يزجوا بقرابة 120 ألف جندي من أجل تثبيت النظام السياسي الجديد في كابل، وتأمين ما يقارب 80 في المائة من الأراضي الأفغانية في سنوات الغزو الأولى، ولكن سرعان ما تحول هذا الانتشار العسكري الواسع إلى أداة لمعاقبتهم من قبل الخصوم، وهذا ما تحاول موسكو عدم تكراره في سوريا، إذ تتجنب إرسال المزيد من جنودها، وتبذل جهودًا من أجل احتكار ورقة الأسد على طاولة المفاوضات، بمنأى عن حجم تدخلها العسكري، لكي لا يكون الثمن الذي ستدفعه من أجل إمساكها به أغلى من الثمن الذي ستجنيه من المساومة عليه.

على الرغم من ضآلة الفرص بتضييق الفجوة بين مواقف الدول المشاركة في اجتماعات فيينا، فإن فكرة التخلي عن الأسد وجدت طريقها إلى أروقة صناع القرار في موسكو، وبات الخلاف معها على تفاصيل كيفية خروج الأسد من السلطة وتوقيته، وهو بند خلافي بين الدول كفيل بإيصال المحادثات إلى حائط مسدود، إلا أن طهران واجهته برفض قاطع، حيث لم تستطع ضبط مواقفها تجاه المرونة المفتعلة التي أبداها حليفها الروسي، ما دفع المستشار العسكري لمرشد الجمهورية، الجنرال رحيم صوفي، إلى تذكير الجميع بأن إيران هي من تقود الحرب في سوريا، أما قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري، فقد وجه انتقادات قاسية ومباشرة لروسيا جراء تلويحها بإمكانية القبول برحيل الأسد، حيث قال: «إن الرفيق الشمالي الذي جاء مؤخرًا إلى سوريا للدعم العسكري يبحث عن مصالحه، وقد لا يهمه بقاء الأسد كما نفعل نحن، ولكن على أي حال هو موجود الآن هناك، وربما مجبر على البقاء (حرجًا) أو لأسباب أخرى»، اعتبار الجنرال جعفري أن موسكو مجبرة على البقاء في سوريا، هو تأكيد على انزلاقها الفعلي في الصراع السوري، وإشارة إلى صعوبة انسحابها منه أيضًا. الحرج الذي أوقعت موسكو نفسها به بالنسبة لجعفري، هو أنها ليست وحدها من يمسك بورقة الأسد، وإذا أرادت أن تثبت عكس ذلك، عليها الانخراط بقوة وبحجم يفوق الانخراط الإيراني الميداني، وعدم الاكتفاء بالضربات الجوية، التي فشلت في تحقيق أهدافها بعد أكثر من 40 يومًا على انطلاقها.

الإمساك بالأسد يتطلب المزيد من التأثير الروسي بكلفة اقتصادية سياسية وعسكرية عالية تتجنب موسكو دفعها، وقد باتت في مواجهة عاملين؛ الوقت الذي بدأ يؤثر على موقفها، والأرض التي تزيد من صعوبتها، وما بينهما من رغبة إيرانية ضمنية في تعثرها، ورهان دولي على عدم استطاعتها الاستمرار طويلاً في تدخلها، ما سيدفعها إلى القبول بتسوية، تقبل فيها بالحد الأدنى من شروطها، وتفضي في النهاية إلى رحيل الأسد. قبل أن يفضي الواقع الميداني إلى تحولات عسكرية تضع حدًا لاندفاعها، ويكشف محدودية ضغطها على قيادة النظام في دمشق، فتقع بين خيار الإمساك بورقة الأسد، وخيار الإفلات من الإمساك بها في سوريا، وهي تعلم جيدًا الصعوبة الناجمة عن إقرارها بالفشل أو التراجع، لأن دفع ثمن طموحاتها لن ينحصر على موقعها في سوريا، بل إن ارتداداته الداخلية لن تكون أقل من ارتدادات الحرب الأفغانية.