في الرابع والعشرين من أيار الماضي، وتحديداً عند الساعة الثالثة إلا ربع من بعد الظهر، استقل ميشال سليمان سيارته لمغادرة القصر. قبل أسابيع معدودة، كانت المرة الاولى منذ أن صار قائداً للجيش، التي يسأل فيها عن أحدث ماركات السيارات وأفضلها، لاقتناء واحدة صارت تلزمه بعد أن تعود سيارات الرئاسة إلى مرآبها.
كل المراسم الاحتفالية حاضرة وشاهدة على الحدث: كبار الضيوف، خطاب «إصلاحي» انتظره البعض في بداية العهد فأتاهم في الثواني الأخيرة، وعجقة كاميرات وإعلاميين...
وحده الرئيس السلف كان غائباً. تسلّم وتسليم بين رئيس منتهية ولايته وكرسي شاغرة تعرف مسبقاً أنه سيمر وقت طويل قبل أن تجد لها «صاحباً» يجلس عليها لست سنوات، أو أكثر.
لكن «سوق الرئاسة» لم يفتح مع خروج صاحب الفخامة من القصر، لأن استعراض الأسماء والعضلات بدأ قبل أشهر من موعد انتهاء الولاية السداسية. حتى أنّ الرجل الذي كان يستعد لتوضيب حقائبه، لم يغب عن موجة «اللبننة» التي حاول البعض الإيحاء بأنها اجتاحت الاستحقاق وحاولت صبغه ببعض الجهود المحلية المعزولة عن الضغط الإقليمي والدولي.. فكان اقتراح التمديد واحدة من الأوراق التي وضعت على طاولات القرار. ولكن سرعان ما سحب من التداول بفعل «فيتوات الغضب»، لا سيما من جانب قوى «8 آذار»، فأحالت سليمان إلى لقب «الرئيس السابق» الباحث عن «رقعة دور» على الشطرنج اللبنانية.
مع أفول العام الحالي، يكون قد مضى على جلوس «فخامة الشغور» اثنان وعشرون يوماً بعد المئتين على الكرسي المخملي، وسط ضبابية كثيفة تمنع الرؤية وتحول دون التقاط إشارات جدية لاحتمال بدء عهد رئاسي جديد يعيد الدورة الدستورية إلى حراكها الاعتيادي.
كثيرة هي الأسباب والمسببات التي تزيد من «عهد الشغور»، منها ما هو إقليمي ــ دولي، وهو الغالب على ما عداه، ومنها ما هو محلي يزيد من تعقيدات الاستحقاق، ويجعل من كل المبادرات السياسية التي رميت في بازار الرئاسة من هنا وهناك، مجرد تشاطر كلامي وفقهي، لا يتعدى سقف المناورات المكشوفة، التي لا وظيفة لها إلا ملء الوقت والفراغ.
بطبيعة الحال، وكما أثبتت التجارب التاريخية والحديثة، فإنّ العوامل الخارجية هي الأكثر تأثيراً بمجرى الأحداث اللبنانية. وهذه المرة كان للاشتباك السعودي ــ الإيراني وقعه على الاستحقاق الرئاسي، لا سيما وأنّ مراكز القرار الدولي، وتحديداً البيت الأبيض، تتعاطى بشيء من اللامبالاة مع هذه الانتخابات. فلا تراها واردة على أجندتها ولا حاضرة في رزنامة اهتمامات قيادتها، وكأنها تفضّل التعامل مع قضايا وأزمات المنطقة على قاعدة الـPackage deal.
باختصار، ترك لبنان لقدر المنطقة، ولقضاء ناسه...
بدا جلياً أنّ ترسيم النفوذ الحاصل على الخارطة الإقليمية، لم تكتمل نهاياته بعد، حيث يتمنّع كل فريق عن تسليم أوراقه بالمفرق، وإنما يعمل على تجميع نقاط القوة لوضعها لاحقاً على طاولة التفاوض لأنه يفضّل حياكة تفاهمات شاملة لا تستثني أي موقع اشتباك. من هنا يُفهم انسداد الأفق أمام الرئاسة اللبنانية بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على موعد استحقاقها.
محلياً، يتقاسم اللاعبون الأساسيون ملعب الرئاسة، كل من موقع القوة التي يمثلها، فيفرضون شروطهم وقواعدهم، وقد عبّرت عنها المبادرات التي تُقذف من ناحية إلى أخرى، من دون أن تتمكن من تسجيل الهدف الذهبي، لأسباب لا ترتبط بالمبادرة بحدّ ذاتها، لا بل بالجمود الإقليمي من جهة، وبتوازن القوى المحلية من جهة أخرى... والأهم من ذلك، بماذا يريد كل فريق لبناني من الرئاسة المارونية.
صحيح أنّ الموارنة يتنافسون، لا بل «يتقاتلون» على الكرسي الوثير وهم أدرى من غيرهم أنّ قيمتها لم تعد كما كانت قبل العام 1990 بعد أن شذّب «الطائف» أظافرها، إلا أنّ «تناتش» شركائهم في الوطن على هذا الاستحقاق لا يقلّ ضراوة. فكل منهم يريد الرئاسة لمعسكره، وإذا لم ينجح بذلك، فمن الضروري أن لا ينتهي السباق لصالح الخصوم. وهكذا تستمر حال المراوحة بانتظار تغيير ما، إقليمي طبعاً، قد يغلّب الدفة لصالح أحد المحورين.
وبالتفصيل يتبيّن أنّ:
ــ «حزب الله» أثبت أنّه غير مستعد للتخلي عن حليفه المسيحي، العماد ميشال عون، مهما عاند الأخير في موقفه من الاستحقاق، على اعتبار أنّه يقدم نفسه أنّه المرشح الأكثر كفاءة لبلوغ المرتبة الأولى. ولا هو مستعد أيضاً لتكرار تجربة العام 2008 حين شارك بطبخة الرئيس التوافقي التي رست على قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان، وطلب من الجنرال أن «يسمح له بها».
حتى الآن، يبلغ قياديو الضاحية الجنوبية كل من يلتقيهم أنّ ما يقرره ميشال عون في الرئاسة سيسيرون به، لا نقطة إضافية أو ناقصة. صحيح أنّ خصومهم يتهمونهم بعرقلة الرئاسة ربطاً بالأزمة السورية وبالاشتباك الإقليمي، وبرغبتهم الدفينة بترحيل الاستحقاق إلى أن تحين ساعته وفق توقيتهم.. إلا أنّ الأكيد أنّ «حزب الله» لا يناور بِدعمه للجنرال، لا بل يترك دفة المعركة بين يديه.
ــ «تيار المستقبل» استفاد من تقدّم حليفه سمير جعجع إلى واجهة الترشيحات كي يصنع منها «دشمة» يتحصن خلفها في مرحلة رفع سقف المفاوضات، إلى حين بدء الحديث جدياً عن ترشيحات تحظى بغطاء التوافق المحلي والإقليمي.
ولكن في موازاة ذلك، ثمة هاجس آخر ينخر في ذهن الحريريين، وهو الخوف على المكتسبات التي منحهم إياها «الطائف»، من أي تسوية إقليمية كبيرة قد تعزز حصة خصومهم في التركيبة السلطوية. وهذا الهاجس لا يغيب عن حسابات معركتهم الرئاسية التي يريدونها أن تنتهي اليوم ولصالحهم.
ــ وليد جنبلاط يحرص منذ أحداث 7 أيار على تكريس التوافق الذي يبقيه شريكاً في اللعبة ومؤثراً في مجراها، من دون أن يتعرض لأي ضغط. وهكذا حجز كل أوراقه في خانة المعادلة التوافقية على قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».
ولهذا هو اليوم يبشّر بولادة التوافق وينثر الورود على طريق الحوار بين «المستقبل» و «حزب الله»، حتى لو تبنى بالعلن ترشيح هنري حلو هرباً من مرّ ميشال عون، وسمير جعجع الأمرّ منه.
ــ المسيحيون: يخوض ميشال عون حربه الرئاسية على أنها آخر معاركه، ولهذا لا مكان للرمادية في استراتيجيته. حتى اللحظة لم يتخل الرجل عن مكانته، ويحتفظ بورقة التطورات الإقليمية التي قد تتوجه ملكاً في اللحظات الأخيرة.
في حين أنّ منافسه سمير جعجع ترك لنفسه مخرجاً لمغادرة السباق بعدما أعلن استعداده السير بمرشح توافقي، كما نجح في قطع الطريق أمام «رفاقه» الموارنة من فريقه السياسي الراغبين في اعتلاء منبر الترشح.
ومع ذلك، فإنّ للرئاسة معنى آخر. ذلك لأن المسيحيين أمام تحدي تجاوز المنطق الخلافي - الإلغائي، لاستثمار المتغيرات الحاصلة من حولهم، والتي لن تعفي لبنان من ضريبتها، لتعزيز موقعهم في السلطة، لأنها قد تكون فرصتهم الأخيرة، لفرض قانون انتخابي عادل يؤمن التمثيل الصحيح أو لتحسين وضعيتهم في النظام...
وفي مطلق الأحوال، عندما ستمرّ رياح التسوية، التي يقول أكثر من معنيّ أنها هبت على المنطقة، في السماء اللبنانية، فستعود الحياة إلى قصر الرئاسة، إما من خلال رئيس تسووي على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وإما من خلال رئيس من فئة «كبار المرشحين» إذا تمكن التفاهم الإقليمي من تأمين الضمانات المطمئنة للفريق الآخر، وقرر وضع التاج على رأسه.