أصل الحكاية

قبل أكثر من شهرين، وتحديداً قبل إعلان روسيا تدخلها العسكري في سوريا، تولّى جنبلاط تقديم المشورة السياسية. قال لمن يهمه الأمر: «فريقنا ليس في وضع جيد، لا في سوريا ولا في اليمن والعراق ولبنان، ويبدو أن التطورات قد تصبّ في مصلحة الخصوم. وإذا ربطنا مصير التسوية المحلية بما يجري من حولنا، فإن ما يمكن أن نحصل عليه اليوم، قد يصبح حلماً بعيد المنال لاحقاً. لذلك، يجب الإسراع باقتراح حل».


كعادته، لم يتأخر جنبلاط في إثارة الأمر من حوله، إلى أن أنجز مروحة من الاتصالات شملت، في المرحلة الأولى، سفراء الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية. وتولى أصدقاء له، من مستشاري الحريري، تبادل الأفكار بين بيروت والرياض وباريس، إلى أن حُدّد له موعد لزيارة السعودية. هناك، عندما قابل الملك النائم سلمان، والملك المتيقظ محمد بن سلمان، ثم رئيس المخابرات خالد الحميدان، هناك طرح الأمر بصورة أكثر وضوحاً، وبما يتناسب مع الأذن السعودية. كان التدخل الروسي في سوريا قد بدأ، ما أتاح لجنبلاط التحدث براحة أكبر. قال إن التدخل سيمنع سقوط بشار الأسد، وأكثر من ذلك، سيحرّر حزب الله من ضغوط كثيرة نتيجة تدخله العسكري في سوريا.

وإذا سارت الأمور نحو انتصارات للفريق الآخر، فسوف يكون لبنان أمام واقع جديد. وفي دغدغة لمستمعه السعودي، اعتبر «أننا أمام فرصة تنظيم تسوية وفق اتفاق الطائف الذي يحمي مصالحنا ومصالحكم. أما إذا تأخرنا، فإن الشيعة، ومعهم المسيحيون، سيعملون على إدخال تعديلات تمنحهم المواقع الأكثر نفوذاً. لذلك، علينا المبادرة إلى اقتراح تسوية على أساس الوقائع القائمة اليوم، بما فيها من توازنات. وهذا يتطلب التنازل للطرف الآخر في نقطة حساسة، وأن نعرض عليه عرضاً لا يمكنه رفضه».


كان جنبلاط، إلى ما قبل زيارته للسعودية، يفكّر في عون رئيساً للجمهورية. لكنه لاحظ ـــــ إلى جانب أنه شخصياً لا يرى فيه إلا كميل شمعون آخر ــــ أن عون يمثل، بالنسبة إلى السعودية، ظلّ إيران في لبنان، لأن تحالفه مع حزب الله لا ينافسه عليه أحد. هنا، لمعت فكرة ترشيح فرنجية، «وإن قال أحد إنه صديق بشار الأسد، فالجواب جاهز: وإن يكن. هل الأسد قادر على فك حرف في لبنان الآن؟».


السعوديون الذين كانوا قد تلقّوا إشارات فرنسية وأميركية وبريطانية حول الفكرة، لم يُبدوا ممانعة. لكنهم رفضوا إطلاق العنان لماكينة عمل سريعة. طلبوا من الحريري الراغب في العودة إلى الحكم بأي ثمن التفاعل مع جنبلاط، فيما عمدت الرياض إلى التشاور في الأمر مع الأميركيين، ثم مع الفرنسيين. وأبلغت الأخيرين: سيزوركم الرئيس الإيراني حسن روحاني قريباً. قدّموا له المفاجأة الكبرى بالموافقة على انتخاب الحليف فرنجية رئيساً للجمهورية. عندها، ستفرض إيران القرار على حزب الله لتسير الأمور. على أن يُعقد، في غضون ذلك، لقاء بين فرنجية والحريري الذي اطلع على نتائج زيارات دبلوماسيين غربيين لبنشعي، وعلى محصلة الأجوبة عن أسئلة حملوها إليه.

 

لقاء باريس

ربما لم تكن فرنسا مقتنعة بقدرة الرئيس الإيراني على إنهاء «الصفقة» بمكالمة هاتفية مع حارة حريك. لكنها وجدت في العرض ما قد يعيدها لاعباً قوياً في لبنان. ألغت مقتلة «داعش» الباريسية زيارة روحاني، لكن برنامج اللقاء بين الحريري وفرنجية ظل مقرراً. عولجت بعض الشكليات في اللحظات الأخيرة، والتقى الرجلان. بادر الحريري فرنجية بالقول: «نحن موافقون على انتخابك رئيساً للجمهورية. يجب أن نتحدث في بعض الأمور، وسنتفاهم على آلية إقناع الجميع في بيروت. ولنتفق: فريق 14 آذار من مسؤوليتنا، وعليك إقناع فريق 8 آذار».


قبل اللقاء، كان فرنجية قد تأخر حتى اطلع على كامل المشاورات. وللأمانة، يجب القول إنه لم يبادر إلى تسويق نفسه لدى أحد، لا جنبلاط ولا الحريري ولا الأطراف الإقليمية والدولية. لكن الأخبار التي تواترت إليه، واستقبالاته السياسية والدبلوماسية، كوّنت لديه صورة عن وجود مقترح من جنبلاط والحريري، بمباركة أميركية ــــ فرنسية ــــ سعودية، لانتخابه رئيساً. وكعادته، بادر إلى الاتصال بصديقه الرئيس الأسد، وزاره لتمضية يوم عائلي استمر ساعات طويلة، ووضعه في صورة الاتصالات مستمزجاً رأيه. لم يكن الأسد متحفظاً، لكنه قال لفرنجية: «تعرف أنني في لبنان أثق بما يقوله السيد حسن. اذهب إليه وشاوره، وما تتفاهمان عليه أسير به».


بعد أيام، قصد فرنجية السيد نصر الله وأثار معه الملف بكامله. كان نصر الله في أجواء غالبية المعلومات، لكنه استمع من فرنجية إلى ما يساعده على نصحه، وهو ما فعله. قال له: «تمهل ولا تستعجل، واسمع ما يقوله الطرف الآخر، ولا تدخل في التزامات. لدينا كل الوقت، ووضعنا من حسن إلى أحسن في المنطقة. وانتبه، فربما يكون هناك من ينصب لنا فخاً ليفكّك جبهتنا. وأنت تعرف أننا متفقون على العماد عون مرشحاً لفريقنا».
لم يخرج فرنجية من اجتماعيه مع الأسد ونصر الله بانطباع سلبي. لكنه لم يحصل على تفويض أو مباركة. وعندما ذهب إلى باريس، كان يريد التأكد من جدية الطرف الآخر. وحتى عندما عاد إلى بيروت، سمع من الرئيس نبيه بري العبارة الأوضح: «لماذا لا يرشحك الحريري وجنبلاط علناً؟ فهذا يسهّل الأمر على الحلفاء»!.


كان جنبلاط قد سمع الكلام نفسه من بري، وكذلك الحريري، وفكر الاثنان بالخطوة المناسبة. لكن التأخير مرده إلى سعي الحريري وجنبلاط إلى انتزاع موقف واضح من حزب الله أولاً، ومن عون ثانياً. وهذا ما لم يحصل. وحتى مساء أمس، ظل جنبلاط يحاول مع حزب الله، لكنه سمع الجواب نفسه: «لا جديد لدينا. الأمر متروك للعماد عون. ونحن لن نضغط عليه، حتى لمصلحة فرنجية».