من السذاجة أن نفهم دعوة أمين عام حزب الله لتسوية شاملة بين الافرقاء اللبنانيين بشكلها الخارجي دون مضمونها وخلفياتها... ومن المؤسف أن يرد عليها بتسخيفها عبر المساومة على كرسي رئاسي واستبدالها بكرسي اخر او بإسترجاع سلطة فقدت او حتى بنعمة إنقطعت... ومن المحزن عدم تلقفها بجدية كبرى قد تكون مدخلاً فعلياً لموجة اصلاحية تعود بالخير على البلاد، وتنهي الصراع المضني القائم منذ 10 سنوات...

لنسلم بالامر أن يوماً ما إن اردنا بناء معاً وطناً مشتركاً ودولة حاضنة لجميع ابنائها... فأننا عاجلاً أم آجلاً سنضطر مرغمين على التحاور حول حل نهائي ينهي حالة الدمار الذاتي التي وصلنا اليها، بشرط ان تكون النتائج المنبثقة عنه، قابلة لإحداث تغيير جذري يؤدي الى إنتشال البلد من المأزق الذي وضعناه فيه. مما يتطلب البحث الجدي عن مصدر المعضلات المعطلة للنظام القائم.

فلو راقبنا المسار التعطيلي للدولة منذ 2005 الى يومنا هذا، لعلمنا ان هناك قضايا دستورية عالقة تمنع الانفراجات البعيدة المدى، وتدفع بأي تسوية الى إتخاذ طابع آني مؤقت، بحيث تعود لتعطل البلد لفترات طويلة عند كل اطلالة لها ومع كل استحقاق بما تمثل من امور مفصلية، كتفسير آليات إنتخاب رئيس للجمهورية، او الاستشارات النيابية وتأليف حكومة، وصولا بالمشروعية في قيادة البلد وميثاقية التمثيل داخل مجلس الوزراء وقضية الصلاحيات لكل وزير ونائب ورئيس للسلطات الثلاث ، ومروراً بالتعينات الادارية المدنية والعسكرية والامنية... وهذا يتطلب إيجاد مرجعية قانونية منزهة بقراراتها الملزمة، قادرة  على تفسير الدستور. بعيدة عن مجلس النواب وتفسيراته الانتقائية للدستور... هيئة قضائية عليا نلجأ اليها لمنع تعطيل المؤسسات وتداول السلطة مهما علا سقف الخلاف السياسي وحدته دون القدرة على تعطيلها.

وكي لا يعتبر البعض إن تعديل وتفسير الاليات الدستورية قد يؤدي الى تحقيق ما يخافه الجميع، من مؤتمر تأسيسي يطالب به البعض من تحت الطاولة وبالمواربة.. وكي لا يتجرأ احداً على تخطي النظام القائم، على الجميع قبول بفكرة الانطلاقة من مبدأ الاعتراف بدستور الطائف وإطاره العام، والعمل على تطبيقه وتحديثه، بتعديل النقاط التي لجأ اليها الجميع لتعطيله وتعطيل مؤسسات الدولة، عبر تفسيره كما يحلو لاي طرف وبما يتناسب مع مصالحه ونفوذه ومكتسباته الانية، بحيث يكون هناك سلة من التعديلات الدستورية منطلقة من فكرة تعديل الدستور لايجاد الاليات فقط لمنع تعطيله لاحقاً...

ولنسلم جدلاً بالشق الاخر الذي نطق به السيد نصرالله من أن التسوية الشاملة تتطلب تنازلات من جميع الاطراف، كحقيقة واقعية لا يمكن لأي طرف الا وإحترامها والعمل بها، بما فيه حزب الله ونصرالله نفسه... وبالتالي عليه التساؤل حول نوعية التنازلات التي يجب ان يقدمها لإتاحة الفرصة لولادة تسوية فعلية...بدءاً بإعتراف حزب الله بوجود الدولة اللبنانية وقبوله بمبدأ العودة الى كنفها وتحت سقفها، وانهاء مشاركته في الحرب الدائرة في سوريا ، والكف عن استعمال السلاح عند كل مفصل لاخضاع الدولة اللبنانية و وإتخاذه لقرار الانخراط بها طوعاً بتسليم سلاحه الى الدولة اللبنانية... كما عليه القبول بمبدأ العدالة والمحكمة الدولية وتسليم المتهمين بها... مما يعني التخلي عن مشروع ولاية الفقيه التوسعي، وتقديم استقالته كجندي في جيشها الإيراني واستعادة دوره كحزب لبناني يعمل في الشأن العام، بقواعد اللعبة التي يسمح بها الدستور وقانون الدولة اللبنانية، مما يعني الغاء نفسه... وهذا من سابع المستحيلات....

ما يطلبه السيد نصرالله من تسوية ليست سوى تنازلات من الطرف الاخر دون مقابل. تسويات تؤدي الى انتخاب رئيس موالٍ لمشروعه، لجمهورية غير موجودة عملياً الا من خلال رؤيته لها وحاجته لوجودها.. يقدمها تيار المستقبل و14 آذار بمكوناتها المختلفة دون مقابل وعلى حساب مشروع الدولة وإحيائها... وهذا سينتج تفاقم إضافي للامور و مظلوميات جديدة عند الطرف الاخر ومزيد من الاحساس بالتهميش والضعف والخضوع تدفع به الى الانعزال او التطرف،... مما يجعل هكذا تسوية قابلة لإعادتنا الى نقطة الانطلاق، لكونها مبنية على قاعدة الاملاءات المطلوبة من المنتصر على المهزوم وجمهوره، وعلى الدولة وقوانينها لصالح الطرف الوحيد الثابت اللامتغير... الا وهو حزب الله ومشروعه الاقليمي..


د. فوزي فري