اقترحت "سوليدير" على سكّانها أن يحتفظوا في منازلهم ومتاجرهم بالنفايات التي لا تنبعث منها روائح، وأن يكتفوا بإرسال النفايات الباعثة للروائح إلى مستوعبات النفايات، ذاك أنها ستتوقف أيضاً عن نقل النفايات من منطقتها بدءاً من اليوم.

 

اقتراح "سوليدير" يهدف لتخفيف حجم النفايات، لا لتخفيف انبعاثاتها، وهو من باب أن ليس باليد حيلة. وبينما كُنت استمع لأحد سكان "سوليدير" يروي ما أبلغتهم به الشركة، راودتني فكرة موازية، أنا الذي لا أقيم في الوسط التجاري، وثمّة فارق بين نفايات منطقتنا ونفايات الوسط. أعتقد أن وقف استيراد البطيخ ومنع بيعه يُخفّف أيضاً من حجم النفايات في مناطق الطبقة المتوسطة في بيروت، والأرجح أنه يُخفف أيضاً من حجمها في مناطق الطبقات الفقيرة أيضاً.

 

تبلغ نسبة البطيخ من مجموع النفايات المطروحة علينا اليوم معدلاً لا بأس به. هذا ما خلصت إليه أثناء عبوري بين جبال النفايات الممتدة من منزلي في الأشرفية إلى مقر عملي في الوسط التجاري، وبعد أوقات أمضيتها في التدقيق بأكوام الزبالة.

 

والأرجح أن نسبة النفايات البطيخية منخفضة في الوسط التجاري، إذ إن السكان هناك يأتيهم البطيخ "مقشراً" فيأكلونه غير مخلّفين وراءهم قشوراً. ثم إننا في عبورنا بين أكوام النفايات وقبولنا بها وتسليمنا بأنها قدرنا على نحو ما سلّمنا بأقدار مشابهة، طوّرنا حاسة انتروبولوجية مكّنتنا من تحديد الكثير من المؤشرات العامة.

 

ماذا يأكل الفقراء وماذا يأكل الأغنياء، والفوارق بين نفايات الشيعة ونفايات السُنّة، ناهيك عن أننا نحن سكان الأشرفية عدنا وقبلنا ببراز الكلاب على أرصفتنا، بعد أن كان ذلك معيقاً لتجولنا الرشيق على أرصفتنا. نعم قبلنا ببراز الكلاب بعد أن كنّا أطلقنا حملة إعلانية لمكافحة هذه الآفة ولمنع العائلات من إرسال الخادمات إلى الأرصفة مصطحبات كلابنا اللطيفة للتبرّز. وها نحن اليوم نشعر بشوق لتلك الروائح اللطيفة على أرصفتنا بعد أن طغت رائحة النفايات.

 

وبما أننا بصدد إنتاج فرع معرفي جديد في موازاة أزمة الزبالة عندنا، هو انتروبولوجيا النفايات، فلماذا لا نتوسّع قليلاً نحو بسيكولوجيا النفايات، ذاك أن مشهد أطفالنا مرتدين كمامات أثناء خروجهم من منازلهم لا بد أنّه سيستبطن معطيات نفسية جديدة، وسيولّد مستقبلاً مختلفاً. فأن تنمو وتكبر مرتدياً كمامة بيضاء ناصعة أمر مختلف عن أن تنمو من دونها. لا بد أن لها أثراً، ويجب أن لا نحكم مسبقاً بأنه سلبي. علينا أن ننتظر نتائج المسوحات النفسية بعد سنوات من بدء الظاهرة.

 

تعلّمنا في السنة الأولى الجامعية أن تحويل المشكلة إلى ظاهرة طبيعية، هي المهمة الأولى للسوسيولوجيا خلال دراستها الظواهر الإجتماعية. على هذا النحو تمكّنت السوسيولوجيا من فهم الانتحار والطلاق والتوترات العائلية والمهنية، وهذا ربما كان وسيلة للخروج من فجيعتنا النفاياتية. أي أن تتحول جبال النفايات وروائحها إلى جزء طبيعي من حياتنا.

 

من الممكن أيضاً أن ندخل الكمّامة على وجه الطفل إلى تراثنا بصفتها زياً وطنياً، كما أن جبال النفايات نفسها قد تتحول إلى أحجام تشكيلية نتنافس فيها مع بعضنا بعضاً. أن تصبح مقولة: "زبالتنا أجمل من زبالتكم" جزء من المأثور الكلامي اللبناني، وأن نأخذ على أهل الحمرا سعيهم لتخريج جبال زبالتهم على نحو أنيق.

 

بدأ شيء من هذا يحصل على كل حال. فجبل النفايات القريب من الجامعة الأميركية والذي غُطي بقماش أزرق تحول إلى حجم يستدرج حشرية وفضولاً، فأنا بعد أن رأيت صورته على صفحة عليا كرامي، وجدتني حين كنت في الحمرا متوجهاً من تلقائي إلى جدار الجامعة لمعاينته.

 

تمام سلام... قدّم استقالتك.