بين التسييس والتطييف، وبين التنافس على صفقات وتنفيعات، عكست أزمة النفايات حال التعفّن والاهتراء في دولة معطّلة، وحكومة حوّلها بعض وزرائها الى هيئة لإدارة التعطيل. قيل أحياناً أن السياسة صارت زبالة والآن أصبحت الزبالة في السياسة. مروّعة هذه الصورة التي عمّمت عالمياً عن البلد وعاصمته، وعن أطفال مضطرين للعب وسط أكوام البقايا والمخرجات. بل مفزع هذا الانحطاط الذي بلغه السجال المرافق لتراكم الأوساخ، خصوصاً بمستوياته الاجتماعية والمناطقية، حتى إن البعض يكاد يطالب بقانون يُلزم كل طائفة بطمر نفاياتها في مناطقها وعدم التجاوز الى مناطق الطوائف الاخرى، في استعادة لمنطق كل طائفة تنتخب ممثليها الى البرلمان.
نادرٌ في العالم مثل هذه الأزمات "النفاياتية"، قد تنجم عن اضرابات العاملين أو حالات اضطراب أمني، أما أن يُترك لمقاولي النفايات ومراجعهم القابضة منهم تحويل الأمر الى نزاع على العمولات، وأن يجازفوا ببيئة العيش وصحة الناس بلا أي وازع، فهذا ما لم تعرفه قواعد "البزنس" في أكثر الرأسماليات توحشاً وما لم تشهده الصفقات في أعتى الدول فساداً. والمشكلة أن أزمات كهذه ليست جديدة على حكومات لبنان، وقد تعامل الناس معها بصبر، الى أن أطلقوا هذه الصرخة ضد كل مَن هو مسؤول: "طلعت ريحتكم"... في عهد الحكومة السابقة كانت أزمة الوقود، ولها رائحة هي الاخرى، فدارت الخلافات وعلت الأصوات بين "المعنيين" في مجلس الوزراء ثم خفتت بعدما ارتسمت المحاصصة. بعد ذلك كانت أزمة الكهرباء وبواخرها، وقد رافقتها ضجّة كبيرة ومشادات بين وزراء ثم سكت الجميع، ما يعني أن ترضيات حصلت، وأن وقائع الفساد تجري في وضح النهار.
لكل فضيحة أطرافها السياسيون، وليس بينهم مَن لم يتلوّث سابقاً، بمَن فيهم أولئك الذين يلومون اليوم حيتان النفايات، فقط لأنهم ليسوا مرشحين لحصّة فيها. والواقع أن ليس بينهم مَن يستطيع الذهاب بعيداً في تأثيم الآخر فجميعهم عاثوا في الأرض فساداً، من بيع الرمول الى ردم البحر الى الكسارات التي تشوّه الجبال الى آلاف مؤلّفة من المخالفات للطبيعة والبيئة و... القوانين التي وضعها المشترعون في سياق التمدّن وتبيّن أن لفيفاً منهم شارك في وضع النصوص وكانوا الأوائل في عدم التزامها.
كانت جماعة "8 آذار" تقدّم نفسها كوصفة سحرية لقطع دابر الفساد وتعتبر خصمها "14 آذار" رمزاً لهذا الفساد. وعلى افتراض صحة ذلك أظهرت التجربة أن الـ"8 آذاريين"، بمن فيهم "تيار الاصلاح والتغيير"، تعلّموا الصنعة ومارسوها في كل الوزارات التي شغلوها، ولعل أفضل دليل أن الخلافات على التحاصص أخّرت وتؤخّر قانون استثمار آبار الغاز في البحر. فهذه فضيحة معلنة، بل فضيحة الفضائح، وقد ربطت بمصير انتخابات الرئاسة، ولم تُربط برؤية اقتصادية للبلد.