كلمة الشيخ عباس الجوهري في ندوة عن “مكافحة التطرف ومواجهة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط” من تنظيم “القوات” – العلاقات الخارجية :

 

نلتقي اليوم لبحث موضوع  يضج به عالمنا العربي خصوصا والشرق الأوسط عموما ويتنقل حتى إلى الأمكنة الأكثر أمانا .

إنه الإرهاب الذي لطالما اتخذته الأفراد والجماعات وبعض الدول مع الأسف، وسيلة للوصول الى ما تراه هدفا لها، بغض النظر عن صوابية الهدف وقربه أو مجافاته للحق والحقيقة، ولكن الجهل المركب والمقدس أحيانا يذكي أواره ويغذيه في بيئة ينعدم فيها الامل بالمستقبل ويعيش برؤى الماضي السحيق.

أيها السادة ليس من نافل القول البحث فيه وليس من الترف الفكري تقديم الرؤى ودراسة الآليات لمواجهته، بل ما نشاهده ونشهد عليه أنه شرار ملتهب، لا نعرف كيف تصرفه الرياح شمالا وجنوبا في ثلاثة أرباع الأرض، ونحن ندرك أن رياحه اصطناعية ولهيبه الذي لا يبقى ولا يذر يرتكز على عدة محددات .

 أولها البيئة الحاضنة والمناخ الملائم لصناعة الإرهاب وهو الفقر والبطالة وانسداد الأفق والاهم الاهم من كل هذا فضاء الاستبداد المقيم في شرقنا والذي عمره من عمر التأسيس لهذه الكيانات التي سميت تسامحا دولا، وبالواقع هي عصابة تتحكم بالبلاد والعباد وتعمل على نهب ثروات الشعوب معتمدة على زبانية وأزلام لا تقدر بأكثر من خمسة بالمئة من عدد شعب اي دولة تحتكر موارد اي بقعة جغرافية أقيمت عليها مسميات دول. فأرجعت المجتمعات الى ما قبل القبيلة وأبعد من عصور الاستعباد .

منعت من خلالها الطغم الحاكمة المواطنين من أبسط حقوقهم في ممارسة قناعاتهم بحرية، هذه الدول البوليسية التي لا تقيم وزنا للقانون والمباديء التي قامت عليها حقوق الانسان واستقرت بها المجتمعات المتقدمة .

وإن التأخير في حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يبقى بيئة خصبة لإنتاج الإرهاب والإستثمار فيه.

خلاصة القول في هذا المحدد هو أن الفرد عندما لا يستطيع ممارسة حقه من خلال صندوقة اقتراع شفافة، ويمنع من إيصال صوته سوف ينفجر غضبا مستسهلا العنف وسيلة للوصول الى الأهداف، وما يؤلم أكثر أن الاستبداد عندما يقارن بالإرهاب الأصولي تتحسن صورته ويصبح التمسك به قيمة تقدمية بالقياس إلى قوى التكفير والظلام، بالوقت الذي نعتبر أن الاستبداد والارهاب والقوى الظلامية وجهان لعملة واحدة .

فقد يكون مفهوما ان نرى بعض العلمانيين المثقفين في شرقنا يحسّنون صورة الاستبداد لارتباطهم بمنظومة المصالح التي تؤمنها الأنظمة المستبدة .

إلا أننا لا يمكن أن نفهم انحياز بعض المثقفين في الغرب الديمقراطي الحضاري المتقدم الى تحسين صورة الاستبداد في محيطنا بالمقارنة مع الارهاب الذي انتشر في سوريا أو غيرها من البلدان التي هبت عليها رياح التغيير .

فهذا الالتباس غير مفهوم ،فهل يريد الغرب فعلا تصدير  ثورته التنويرية إلى شرقنا أم يعتقدون أن الديمقراطية جوهرة لا تليق بشعوب عالمنا العربي فيمنعونها عنا ؟ أو لا يساعدوننا في تحويل مجتمعاتنا من الاستبداد الى الديمقراطية، وبذلك فقط يبعدون شبح الإرهاب عنا وعنهم ، فهذا برنارهنري ليفي وأندريه غلوكسمان وغيرهم يعلنون صراحة في خضم الانتفاضات العربية أن الشعوب العربية متخلفة بشكل أزلي أو خلقي أو وراثي أو فطري أي بشكل لا مخرج منه، وبالتالي فالديمقراطية لم تخلق لهم ولا تناسبهم إلا سياسة العصا والاستبداد.

إن أوروبا عانت من الاستبداد الديني والسياسي في العصور الوسطى ولم تفلح بالنقلة النوعية والوثبة الحضارية ومحاربة الارهاب بكل اشكاله الفكري والسياسي، إلا من خلال ما طرحه فلاسفة التنوير أمثال فوليتر ومونتسكيو وروسو وكانط وهيغل وغيرهم ممن لا يتجاوز عددهم الاربعين الى الخمسين الذين غيروا وجه أروبا وبلوروا النزعة الانسانية بالمعنى الحديث للكلمة، فقد أكد هذا التنوير لأول مرة على كينونة العقل والجنس البشري والحقوق البشرية، وأطاح بذلك كل الفكر الديني اللاهوتي القروسطوي  الذي لم يكن يعترف إلا بحقوق أتباع الدين السائد، وأحل محله فلسفة السياسة الحديثة التي تعتبر الانسان كإنسان بغض النظر عن انتماءاته العرقية او الدينية او المذهبية، واعتبروا ان قيمة ومعيار أي سلوك هو خدمة الفرد والمجتمع ككل وليس خدمة الطائفة أو العشيرة فقط .

إننا في هذا الشرق لا يمكن لنا التخلص من الإرهاب والنهوض بالوثبة الحضارية والتاريخية إلا إذا تخلينا عن فكرة أن الانسان الكامل الذي يتمتع بالحقوق الكاملة هو من أتباع الدين السائد والمذهب السائد، وأن الآخر ليس له أي حق بل هو مجرد تابع مجرد من حقوقه .

لا يمكن أن يستقر شرقنا وينكفيء الارهاب عنه إلا عندما نعمل لنجد أقلويا سنيا في بلاد مثل إيران يتمتع بكامل حقوقه المواطنية متساويا بذلك مع المواطن المنتمي الى المذهب الأكثري، وكذلك الحال في الدول ذات الأغلبية السنية التي لا تعطي اي اعتبار لحق المواطن الأقلوي الذي لا ينتمي الى نفس مذهب الأكثرية .

لم تتقدم وتستقر أوروبا إلا عندما انخرطت في النظام المدني الديمقراطي العلماني الذي يساوي بين المواطن الأقلوي والمواطن ذات الانتماء الطائفي الاكثري .

عندما نجد في فرنسا ذات الأكثرية الكاثوليكية مواطنا أقلويا بروتستنتيا يتبوء منصب رئاسة الوزراء، عندها نقول ان استقرارا سياسيا وتقدما يقيم في هذه الدولة، وأن اي ارهاب  لا يمكن أن ينبت في مثل هذه البيئة .

عندما نجد في ألمانيا كاثوليكيا أقلويا يتبوء المناصب الاولى بالدولة عندها نقول ان ازدهارا وتقدما وعدالة واستقرارا يقيم في هذه الدولة والعكس صحيح .

هذا في الحديث عن الارهاب في المنشأ أما المستورد إلى أوروبا لا يمكن أن تبعده إلا بمساعدتنا في التخلص من الاستبداد.

أما في المحدد الثاني فقد لا يكون أقل خطرا من الاستبداد هو الموروث الديني وسوء استخدامه والخطاب المزدوج للنص المتجذر في الخطاب الديني الذي يحمل القدرة على التأويل ويخضع لرغبة المفسر ومصالحه ، ومن هنا ليس غريبا أن يعتبر علي بن ابي طالب الخليفة الرابع عند المسلمين أن القرآن حمّال أوجه وينهي عن استخدامه كأساس للمحاججة ،غير أن بعض رجال الدين المتطرفين أو بعض الجهلة المستعملين للنصوص الدينية يحرفون الكلم عن مواضعه أو يسيؤون الفهم ويعممون النص لكل زمان وفي كثير من الأحيان يبقى النص وثيقة تاريخية غير ملزمة لكل عصر، خصوصا وأن هناك آيات تنسخ أخرى، وهنا أصطدم بمن يعتقد أن المفاهيم الاسلامية ثابتة لكل عصر بل هي متحركة ويبقى لرجل الدين الباع في استخراج المفاهيم المقاصدية وهو ما يسمى بالفقه المقاصدي .

ومن هنا يمكن ان يكون النص الديني داعية سلام ويمكن ان يكون داعية حرب واذا ما اراد الدينيون الحرب أخرجوا من جعبتهم ادوات التعبئة وموروثهم الديني في التحريض عليها ، واذا ما ارادوا السلام اخرجوا من جعبتهم مستلزمات السلام و هكذا فلا بد من إيجاد رجال دين متنورين وإصلاحيين يقدمون قراءة إنسانية للنص ويفككون ويرفضون حديث الفرقة الناجية ولا يحصرون النجاة في أتباع دين محدد كما فعل مارتن لوثر في نهضته الإصلاحية في الكهنوت المسيحي.