عرف التاريخ اﻹسلامي ، منذ عهوده اﻷولى ، حركات أصولية كثيرة ، تميزت بتطرفها و تعصبها ، و حدتها في التعاطي مع متلقبات الزمن و مستجدات اﻷمور .

و لقد حدث ، أكثر من مرة ، أن نمت هذه الحركات و تطورت ، حتى أن بعضها استطاع تأسيس دول و إقامة ممالك و إمارات .

و كانت العلامة الفارقة التي جمعت بين هذه الحركات ، هي مدى انغلاقها على نفسها ، و العنف الذي طبع سياساتها بطابعه الخاص .

و كان الخوارج في طليعة هذه الحركات التي شكلت ، بحراكها ، تصعيدا" في اتساع الذهنية اﻹلغائية و التوجه اﻹقصائي ، حيث اعتبر كل مخالف لهم ، خارج عن الدين و الملة ، و تنطبق عليه أحكام المرتد الكافر ، و لم يقف اﻷمر عند هذا الحد ، بل اعتبر كل ما يمت إلى المخالف بصلة ، أيا" كانت ، حكمه حكم المخالف أيضا" .

هذا التعميم اللامنطقي و اللاشرعي هو الذي صبغ سياسات الخوارج ، و هو الذي أدى ، فيما بعد ، إلى اعتبارهم خارجين عن الدين ، باجماع كافة المسلمين ، إلا ما ندر .

و مما لا شك فيه أن هؤلاء ، لم يعتمدوا هذه السياسة القاتلة ، بناء" على مصالح آنية تخص حركتهم ، بل كان فهمهم الخاص لﻹسلام هو القاعدة التي انطلقوا منها في مسيرتهم العامة ، و هي اﻷساس الذي استقوا منه مشروعية تحركهم و قيامهم .

و حال مغادرتنا الصدر اﻷول لﻹسلام و ما تلاه ، و انتقالنا إلى وقتنا الحاضر ، سنجد أن التاريخ يعيد نفسه ، رغم اختلاف الظروف طبعا" ، و سنجد أن الخوارج قد بعثوا من جديد ، أو قد أعيد إحياؤهم ، على وجه أدق .

و للتوضيح نقول ، أن مسيرة تنظيم الدولة اﻹسلامية في العراق و الشام ، هي محاكاة ، قل نظيرها ، لمسيرة الخوارج ، مع فارق وحيد يتمثل في الخلفية العقائدية التي شكلت أرضية فكرية ، اعتمد عليها كل منهما ، و التي شكلت أيضا" حصنا" منيعا" أمام الهجومات الفكرية المضادة .

إذا ، لم يشكل تنظيم الدولة ( داعش ) سابقة فريدة في اجراءاته العنيفة بحق مخالفيه ، فالتاريخ اﻹسلامي مليئ بظواهر القطع و الحرق ، و السلخ أيضا" ، و لكن ما يميز داعش عن غيره ، هو أن القيام بهذه الفظائع ، يجيئ على خلفية عقائدية شرعية و ليس على خلفية سياسية ، كما جرت العادة .

فمن يتابع الظاهرة الداعشية ، منذ قيامها ، يجد أن الكلمة الفصل هي لفهمهم الديني على حساب وعيهم السياسي .

لقد كان من الممكن لداعش ، أن يكسب شعبية كبيرة في وسط الجمهور اﻹسلامي ، لو انه اعتمد سياسة استقطاب خاصة ، تأخذ بنظر اﻹعتبار ، المتغيرات الطارئة على الساحتين اﻹقليمية و الدولية ، و لكنه آثر التضحية بمصالحه السياسية انسجاما" مع معتقداته الدينية ( كما الخوارج بالضبط ) ، و هذا ما أفقده التفاف الجماهير اﻹسلامية حوله ، و وضعه ، في الوقت ذاته ، في مواجهة مع اﻷسرة الدولية بشكل عام .

و ما حصل مع معاذ الكساسبة ، يعكس ، بشكل صارخ ، طريقة تفكير داعش ، و أولوياته ، المتمظهرة ، في تطبيق الحدود الشرعية .

إن سياسة الجمود و التصلب التي مارسها تنظيم الدولة ، إن دلت على شيئ ، إنما تدل على قصر نظر ساسته و قيادته من ناحية ، و على قلة الخبرة في العمل السياسي ، من ناحية أخرى .

إن انعدام المرونة هنا ، لا يرجع إلى أن داعش مجرد حجر شطرنج ، ينفذ ما يخطط له ، و يؤمر به ( كما يتبجح البعض ) ، و لكنه يرجع باﻷساس إلى اﻷيديولوجيا السلفية المنغلقة ، التي شكلت حاضنا" ثقافيا" له و لغيره من تنظيمات السلفية الجهادية .

و نحن هنا ، نعتقد جازمين ، أن هذه السياسة اﻹنغلاقية ستكون السبب اﻷساس في سقوط هذا التنظيم ، بنفس السرعة التي قام و ظهر بها ، ﻷن السنن التاريخية تؤكد لنا أن التكيف هو سبيل البقاء ، و أن لا مستقبل و لا حياة ﻷي كيان يعصى على التفاعل و اﻹنفعال ، ﻷنه بذلك يشكل جسما" غريبا" سيلفظه المحيط عاجلا" أم آجلا" .

إن الطروحات التي يقدمها تنظيم الدولة ، و المشروع الذي يحاول تسويقه ، و باﻷحرى فرضه ، قد عفا عليهما الزمن ، و لا أفق لهما البتة ، ﻷن التاريخ لا يرجع إلى الوراء أبدا" ، بل هو في تقدم مستمر ، و اندفاع باتجاه اﻷمام .

و من هنا ، فإن أمام تنظيم الدولة خياران لا ثالث لهما :

فإما أن يعمل على تقديم المصالح السياسية و يعتمد المرونة في سياساته العامة ، فيكون بذلك قد فتح آفاقا" جدية لوجوده و بقائه ، و إما أن يستمر في نهجه اﻹنغلاقي اﻹلغائي ، فيكون بذلك قد حفر لنفسه قبرا" سيوارى فيه عاجلا" و ليش آجلا" .

وجود داعش اليوم على المحك ، و البراغماتيه طريق نجاته الوحيد

فالتاريخ ، كما نعرف ، لا يحفظ اﻷغبياء .