تصدر إشارات متضاربة من طهران فيما يخص استراتيجيتها بشأن الاتفاق المرتقب والمتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. أسندت الولايات المتحدة سياساتها نحو إيران على أمل «التغيير الإيجابي» في ميزان القوى المحلي داخل النظام الحاكم الإيراني.. ولكن إلى أي مدى يعد هذا الأمل واقعيا؟ جاءت إحدى الإجابات عن ذلك التساؤل الاثنين الماضي عندما اجتمعت مجموعة مكونة من 80 من كبار ملالي السياسة الإيرانية خلف الأبواب المغلقة في طهران، وانتخبوا فيما بينهم رئيسا جديدا لتلك الهيئة الغامضة المعروفة باسم «مجلس الخبراء».
ولكن، قبل أن نعرف مقدار أهمية هذه الخطوة، دعونا نرَ ما الذي يفترض على المجلس المذكور فعله، ومن هو الرجل الذي سوف يترأس مجلس الخبراء في دورة العام المقبل.




يمتلك المجلس، الذي يتألف من 86 عضوا من كبار الملالي الذين يمثلون كل الأقاليم الإيرانية، سلطة تنصيب وعزل المرشد الإيراني الأعلى والإشراف على أدائه في منصبه، ومحاسبته ومساءلته حين الاقتضاء كذلك.
وفقا للدستور الخميني الإيراني، فإن المرشد الأعلى يمثل سلطة الله على الأرض ويتمتع بصلاحيات هائلة، وأكثر من أي رئيس دولة آخر في جميع أنحاء العالم. وكثير من مواد الدستور الخميني، المصادق عليه في عام 1979، توضح بجلاء أن المرشد الأعلى هو، أيضا، زعيم الملالي حول العالم، سواء ارتضوا بذلك أم لا.
من الناحية النظرية، على أدنى تقدير، يمكن للمرشد الأعلى ذي النزعة الخمينية تقرير ما هو من الإسلام وما ليس منه في أي وقت من الأوقات. وكل ما يصدر منه أو يقوله يعد من قبيل «فصل الخطاب» مما يعني «إغلاق باب المناقشة تماما»، ما لم، بطبيعة الحال، ينقض مجلس الخبراء قراره، وهو الأمر الذي لم يحدث قط حتى الآن.
ومن الناحية العملية، يسيطر المرشد الأعلى على خزانة أموال الجمهورية الإسلامية، وهي من أغنى الخزائن السيادية في جميع أرجاء العالم الإسلامي. (لقد أشرف المرشد الإيراني الأعلى خلال العقود الثلاثة الماضية على إنفاق ما يقرب من تريليون دولار من عائدات النفط الإيرانية). ويتعين على المرشد الأعلى التصديق النهائي على الميزانية الوطنية للبلاد، ويحتل منصب القائد العام للقوات المسلحة والقوات الأمنية في الدولة. كما يتعين حصول كل تعيين في منصب وزاري، أو حكومي، أو دبلوماسي، على موافقته الشخصية. وعلى الرغم من اعتلاء رئيس الجمهورية الإسلامية سدة الحكم بطريق الاقتراع العام بين الناخبين، فإنه لا يمكنه تولي مهام منصبه من دون صدور مرسوم موقع بذلك الشأن من قبل المرشد الأعلى.
وكما قال السيد رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي ذات مرة في فترة الثمانينات، فإن المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الإسلامية هو «كل شيء»، أما المسؤولون الآخرون فليسوا إلا لاعبين يؤدون أدوارا مثل الوزراء أو السفراء وخلافه.

هويات متعددة
لكن من هو الرئيس الجديد لمجلس الخبراء الإيراني؟
إنه آية الله محمد يزدي، وهو عضو بالمجلس يبلغ من العمر 84 عاما، وأحد ملالي الثورة الإيرانية البارزين، الذي تمكن من الجمع بين مهنة رجل الدين والشخصية السياسية رفيعة المستوى. يتمتع يزدي بشخصية متعددة الجوانب، فلقبه يشير إلى انحداره من أسرة تعود أصولها إلى مدينة يزد التاريخية العظيمة، التي تقع على حافة الصحراء الإيرانية، وهي آخر المدن الإيرانية اعتناقا للإسلام.
وحتى يومنا هذا، فإن مدينة يزد، حيث يوجد أكبر معبد للنار في العالم، تعتبر «المدينة المقدسة» من قبل أتباع الديانة الزرادشتية في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من ذلك، فإن السيد يزدي، الذي ولد في مدينة أصفهان، لم يكد يعيش قبل أي وقت مضى في مسقط رأس أجداده. ومع ذلك، لا يمكن اعتباره أصفهانيا حقيقيا كذلك، نظرا لأنه إبان مرحلة المراهقة من عمره، قد انتقل إلى مدينة قم، وهي مركز الدراسات الدينية الشيعية، حيث تلقى تعليمه كي يصبح رجل دين شيعيا. وهناك، كان من بين أساتذته شخصيات دينية بارزة مثل آية الله الكلبايكاني، وآية الله المرعشي النجفي، وروح الله الخميني، المؤسس المستقبلي للجمهورية الإسلامية.
أكسبه عزوفه عن ربط هويته بأي مدينة أو إقليم بعينه اسما مستعارا وصفه خصومه فيه بالـ«شارد». ولقد انتخب عضوا في المجلس الإسلامي، وهو البرلمان الخميني. ويأتي أعضاء مجلس الخبراء من مختلف الأصقاع والأقاليم الإيرانية مثل مدينة قم المقدسة، ومن طهران العاصمة، وحتى من مدينة كرمانشاه، وهي مقاطعة كردية إلى حد كبير ولم يقم السيد يزدي بزيارتها ولا حتى على سبيل السياحة.
كان يزدي في الأربعينات من عمره حينما استولى الملالي على السلطة في عام 1979. ولم يكن عاقدا عزمه بشكل واضح على المسار الذي سوف ينتهجه في حياته المهنية، فقرر، عملا بالأحوط، أن يلعب مع كلا الفريقين؛ فعلى الجانب السياسي أصبح الرجل من الأعضاء المؤسسين وزعيما لرابطة رجال الدين المقاتلين، وهي مجموعة من الملالي الساعين إلى اعتلاء المناصب الحكومية الرفيعة. ثم أصبح قائما بأعمال إمام صلاة الجمعة في طهران، وتمكن من أن يكون عضوا في مجلس صيانة الدستور، وهو جهاز سيادي رفيع المستوى يملك حق الاعتراض على القوانين التي يمررها برلمان البلاد.
في الوقت ذاته، مع كل ذلك، استفاد الرجل من أهميته وبروزه الجديد في تأمين نفسه مدرسا للاهوت في مدينة قم المقدسة بهدف ترقية رتبته من «حجة الإسلام» إلى رتبة أرقى وهي «آية الله».
يتمتع يزدي ببراعة في إدارة حياته المهنية، حيث نجح في تأمين قطعة لنفسه من كل فطيرة من دون تعريض نفسه لسقطات وغدرات الصراعات السياسية. وعلى طول حياته الدينية والسياسية عقد صداقات مع الملالي الأصغر منه سنا، مثل: حجة الإسلام علي حسيني خامنئي، وهو آية الله العظمى المستقبلي، والإمام الأكبر، والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية.

صداقة مثمرة
أمن استثمار الرجل لصداقته مع الخميني فوائد جمة له عندما عين في عام 1989، بعد وقت وجيز من وفاة الخميني، رئيسا للقضاء الإسلامي، وهو أحد أكبر خمسة مناصب في نظام الخميني الحاكم، وتولى السيد يزدي ذلك المنصب لمدة عشر سنوات.
يأتي فوز السيد يزدي الاثنين الماضي برئاسة مجلس الخبراء بمثابة مفاجأة كبرى لكثيرين، وعلى الأخص نظرا لأنه لم يلمح إلى أنه من بين المرشحين للمنصب حتى الساعة الأخيرة قبل بدء الجلسة المغلقة.
يقول المحلل الإيراني ما شاء الله شمس الواعظين، المقرب من المرشح المهزوم علي أكبر هاشمي رفسنجاني: «لم يكن ذلك متوقعا أبدا. لقد أصابني ذهول كبير إثر فوز السيد يزدي».
جاء فوز يزدي بتأثير ساحق؛ فقد حاز أصواتا تساوي تقريبا ضعف ما حازه السيد رفسنجاني، بواقع 47 إلى 24 صوتا، مما يؤكد فشل الحملة الانتخابية التي امتدت لشهور من قبل الفصيل الموالي لرفسنجاني لتعزيز مرشحهم ووصفه بأنه «الفائز الحتمي».
قال السيد يزدي إنه لم يعلن عن نيته للترشح لأي شخص كان حتى ميعاد بدء انعقاد الجلسة، مضيفا: «نظامنا يختلف تماما عن النظم المتبعة في الدول الكافرة، حيث ينظمون الحملات الانتخابية. في نظامنا يقترب الإمام الغائب من القلوب المؤمنة ويهديها إلى السبيل القويم».
تفيد تصريحات يزدي بأنه لم يخبر خامنئي حول نيته الترشح للانتخابات، فهل هذا معقول أو مقبول؟ قد نعجز عن الوصول إلى الإجابة الشافية.
ومع ذلك، يتفق أغلب المحللين على أن مرشح خامنئي لقيادة مجلس الخبراء كان آية الله محمود هامشي شهرودي الذي صمد خلال الجولة الأولى من التصويت، ولكنه قرر الانسحاب حينما بدا واضحا أنه لن يفوز خلال الجولة الثانية. وبالتالي، وحتى مع عدم حصول يزدي على الموافقة المسبقة من خامنئي، فمن الواضح بجلاء تحويل أنصار خامنئي أصواتهم ناحية السيد يزدي خلال الجولة الثانية من الاقتراع.
صارت سعادة خامنئي بفوز يزدي برئاسة المجلس واضحة للعيان يوم الثلاثاء بعد يوم من الانتخاب، من واقع تعليق المرشد الأعلى على نتائج الانتخابات؛ حيث قال: «تظهر الإنجازات الماضية والحاضرة لآية الله يزدي على أنه أبرز الشخصيات القادرة على تولي تلك المهمة التي اختير لها».
كما تبدو سعادة يزدي مضاعفة بذلك الفوز نظرا لأن رفسنجاني، وهو الرجل الذي هزم في الانتخابات، ظل واحدا من أقدم وألد أعداء يزدي السياسيين.
رغم الخلافات السياسية، فإن هناك نقاط التقاء مشتركة بين الرجلين؛ حيث ينتمي كل منهما إلى الجيل نفسه مع كون رفسنجاني أصغر من يزدي بعام أو اثنين. وكل منهما نشأ في أسرة زراعية من الأسر المتوسطة الغنية التي عاشت على حافة الصحراء الإيرانية الكبرى. (ومسقط رأس رفسنجاني يعود إلى بهرمان بالقرب من كرمان). كلا الرجلين يعتمر العمامة البيضاء، مما يدل على نقاء أصولهما الإيرانية. أما الملالي الذين يزعمون انتسابهم لأصول عربية عبر النسب بالأئمة الشيعة فيعتمرون العمائم السوداء. حاول كل من يزدي ورفسنجاني تأمين طريق سياسي - ديني مزدوج لنفسه. أما الخلاف الوحيد، فيكمن في أن يزدي شدد على الجانب الديني من حياته المهنية، بينما ركز رفسنجاني على المنحى السياسي منها.
ادعى يزدي لنفسه دائما الاحتفاظ باللقب الديني، بينما بدأ رفسنجاني في استخدام لقب «آية الله» قبل أكثر قليلا من عقد من الزمان. أما مزاعم يزدي الدينية فهي أكثر قبولا وتصديقا من رفسنجاني، وذلك لأن يزدي أشرف على دورة دينية في مدينة قم المقدسة، بينما لم يعمل رفسنجاني في التدريس الديني قط.

التجارة والفساد
يعد كل من رفسنجاني ويزدي من رجال الأعمال الناجحين، وتمكنا من تكديس الثروات الهائلة منذ قيام الثورة. وفي أوقات مختلفة نالت اتهامات الفساد كلا الرجلين؛ ففي عام 2009، وجه السيد محمود أحمدي نجاد، الذي تولى رئاسة البلاد، اتهاما على الهواء في مناظرة تلفزيونية إلى رفسنجاني وعائلته بالتصرف وكأنهم منظمة مافيا محلية، وزعم امتلاكه «جبلا من الأدلة» لتأكيد اتهاماته.. ولكنه لم يفعل. وقام الفصيل الموالي لرفسنجاني بالانتقام عندما قام عباس باليزدار، وهو عضو في اللجنة القضائية بالمجلس الإسلامي، بتوجيه اتهامات بالفساد وغسل الأموال إلى يزدي. ولكنه، أيضا، لم يتقدم بأي أدلة.
وحيث إن توجيه الاتهامات بالفساد ضد الخصوم السياسيين يعد من الممارسات الاعتيادية في أغلب دول الشرق الأوسط، فيجب ألا تؤخذ الاتهامات ضد يزدي ورفسنجاني بمزيد من الأهمية. المؤكد في الأمر، رغم ذلك، هو الاختلاف العميق القائم بين منهج كلا الرجلين حول دور الدين في السياسة. يبدو أن يزدي مقتنع بصورة أكيدة أنه ينبغي على السياسة، وكل شيء آخر في واقع الأمر، أن يكون في خدمة الدين، على الرغم من الرواية الرسمية المقدمة من قبل الجمهورية الإسلامية. وفي المقابل، يعتقد رفسنجاني أن الدين ينبغي أن يكون في خدمة السياسة. ومن زاوية يزدي، يجب أن ينشأ حكم الدولة من داخل المسجد. أما رفسنجاني، فيرى أن الدولة، خصوصا في «نسختها المحمدية النقية»، ينبغي أن تحتل مركز القيادة. كما أن هناك موضع خلاف وحيدا وأخيرا بين الرجلين.. يبدو أن رفسنجاني يأخذ جزءا كبيرا من الخطاب الديني للنظام الحاكم على محمل الجدية.. على سبيل المثال، فهو يتعامل من باب الاستعارة والكناية فقط مع المقولة الشائعة لدى الشيعة بأن الله قد خلق الكون بأسره لأجل «آل البيت»، أما يزدي، فيصر من خلال خطاباته وكتاباته على الحقيقة الحرفية للمقولة. بالنسبة إلى رفسنجاني، يعتبر الدين آلية من آليات السيطرة على الجماهير غير المتعلمين من خلال قواعد للسلوك تفرض عليهم فرضا من قبل الدولة. أما يزدي، فيعتبر أن الدين للجميع؛ المتعلم منهم والأمي، والغني منهم والفقير.
كثيرا ما ينظر إلى رفسنجاني باعتباره الأب الروحي للحركة الإصلاحية الإيرانية، حيث يفضل الانفتاح على العالم الخارجي ما دام ذلك لا يمثل تهديدا لقبضة الملالي على مقاليد السلطة في البلاد. تعلم الرئيس الأسبق اللغة الإنجليزية وأرسل أولاده للدراسة في الخارج، بما في ذلك كندا وبلجيكا وبريطانيا. وقاد رفسنجاني النظام الحاكم خلال فترتي رئاسته للجمهورية الإسلامية عبر عدد من العواصف الدبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي في الوقت ذاته الذي كان يسعى فيه للحوار مع الإدارات الأميركية المتعاقبة.
وظل رفسنجاني على الدوام مهتما بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.

قناة سرية مع واشنطن
فتح رفسنجاني خلال فترة الثمانينات قناة سرية مع إدارة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في واشنطن، وأرسل نجله مهدي ليعقد صفقة مع الجنرال أوليفر نورث الذي تولى منصب مستشار رئيس الولايات المتحدة لاحقا.
في المقابل، حذر يزدي دائما من «خطر التلوث» الناجم عن تفعيل الاتصالات مع العالم «الكافر».
عارض يزدي، بوصفه عضوا بارزا في «رابطة رجال الدين المقاتلين»، ترشح رفسنجاني في كلتا المناسبتين عندما انتخب الأخير رئيسا للبلاد. وفي وقت لاحق، عارض يزدي أيضا الترشيحات الرئاسية لكل من محمد خاتمي، وحسن روحاني، الذي ينظر إليه الملالي من الصف الثاني على أنه محسوب على الفصيل الموالي لرفسنجاني. ما لعب يزدي دورا مؤثرا في التصويت لترشح رفسنجاني للحصول على مقعد في المجلس الإسلامي، وفي الآونة الأخيرة، رئاسة الجمهورية. يقول المحلل الإيراني أحمد خفراني: «ليس الدين إلا صفقة تجارية بالنسبة إلى رفسنجاني. أما بالنسبة إلى يزدي، فإن عمله هو الدين». ساند يزدي، خلال الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في عام 2009، المرشح محمود أحمدي نجاد، بينما ألقى رفسنجاني بثقله داعما للمرشح مير حسين موسوي، خصمه السابق. وعندما زعم المرشحون الخاسرون بوقوع عمليات تزوير واسعة النطاق، أيد رفسنجاني مزاعمهم بينما وصفها يزدي بأنها جزء من الفتنة التي أشرفت عليها إسرائيل والولايات المتحدة. إن دل كل ذلك على شيء، فهو يدل على أن الخيار الذي تعامل معه مجلس الخبراء كان خيارا واضحا بين استراتيجية إغلاق فصل الثورة الإسلامية لصالح التطبيع في الداخل والخارج من ناحية، واغتنام الفرصة لإقامة «قوة إسلامية عظمى» تقودها إيران من ناحية أخرى.
في حين أن خطابات رفسنجاني يملؤها الرثاء حول المخاطر التي تواجه النظام الخميني، لا تزال لهجة يزدي تعلو بالظفر والانتصار. ويحذر رفسنجاني من أنه ما لم تغير إيران مسارها، فإنها لا تتجه إلا صوب المتاعب بكل تأكيد.
في المقابل، يصر يزدي على أن خصم إيران الحقيقي والوحيد، الولايات المتحدة الأميركية، تعاني من انهيارها الأخير، وأن انتصارات الجمهورية الإسلامية الباهرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن تشير إلى تحول استراتيجي في موازين القوى على المستوى الإقليمي، على أدنى تقدير.
من المثير للاهتمام، التفاف الملالي الأكثر تطرفا حول عباءة يزدي، من ذوي العيون اللامعة إثر الهيمنة الإيرانية الموعودة على منطقة الشرق الأوسط.

انتصار مباغت
بالتالي، قد يظهر يزدي بوصفه حالة وسطا بين رفسنجاني، داعية التسوية والتطبيع، وآية الله محمد تقي مصباح يزدي الذي يدعو إلى «تصدير الثورة الإسلامية» إلى كل الدول ذات الأغلبية المسلمة. (لا تربط مصباح يزدي علاقة بمحمد يزدي). ولكن، ما أهمية انتصار محمد يزدي المباغت؟
يميل المحللون المؤيدون لرفسنجاني إلى التقليل من أهمية انتخاب يزدي استنادا إلى حجتين: لأولى، التي يعرضها صادق زيبا كلام، وهو كاتب عمود صحافي في صحيفة «الشرق» اليومية الموالية لرفسنجاني في طهران؛ حيث يدفع بأنه قد تم انتخاب يزدي لعام واحد فقط، حيث إن مجلس الخبراء بكامله سوف يخوض انتخابات جديدة على مستوى الأعضاء بحلول فبراير (شباط) 2016.
وأضاف: «لا نعلم لمن ستكون الأغلبية في انتخابات العام المقبل، ولن يكون من قبيل الحكمة شطب اسم رفسنجاني». أما رفسنجاني ذاته فقد ذهب إلى أبعد من ذلك لما زعم أنه مستمر في ممارسة «نفوذه الحقيقي» على المجلس؛ حيث قال الأسبوع الماضي إن «المهمة الحقيقية للمجلس هي اختيار المرشد الأعلى المقبل وقتما تسمح الظروف بذلك. وفي مثل تلك اللحظات، سأقول كلمتي بصفتي عضوا في المجلس. ولست في حاجة لأن أكون رئيسا للمجلس لكي أدلي برأيي». غير أن معلقين آخرين، رغم ذلك، اعتبروا تحليل رفسنجاني للوضع بأنه من قبيل الأمنيات الحالمة. يقول حسين راسم، وهو محلل سياسي سابق لدى السفارة البريطانية في طهران إن «الرسالة الرئيسية لتلك الانتخابات تكمن في رفض الصقور تخفيف قبضتهم على السلطة في أجهزة الدولة الرئيسية. وحينما يأتي اليوم، فإن فرص اعتلاء خليفة متشدد لآية الله خامنئي سدة الحكم في البلاد، «تستمر قوية حتى الآن». يعتبر انتخاب محمد يزدي، وبصورة أكثر إلحاحا، من قبيل الانتكاسات لسياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما حول إيران، التي تستند إلى مساعدة من يوصفون بالمعتدلين على إحكام السيطرة على كل مقاليد السلطة في طهران وتوجيه مسار الجمهورية الإسلامية تدريجيا نحو الحياة الطبيعية.
لمح أوباما إلى أنه يعتقد أن مثل ذلك المسار قد يستغرق 10 سنوات ليكتمل، وهي الفترة ذاتها المحددة للاتفاق النووي الذي يجري التفاوض بشأنه مع طهران.
خلال ذلك العقد من الزمان، قد يكون خامنئي، البالغ من العمر 76 عاما ويقال إن حالته الصحية معتلة، خارج المشهد السياسي أو يدفع إلى مغادرته من قبل الفصيل الموالي لرفسنجاني. تعود مصادر الشائعات واسعة الانتشار حول «الوفاة الوشيكة» لخامنئي، إلى شخصيات وثيقة الصلة بفريق رفسنجاني، وهي تكهنات حول عواقب إجراء خامنئي جراحة سرطان البروستاتا.

سيناريو التغيير
يبدو السيناريو الذي يحاول الفصيل الموالي لرفسنجاني بيعه لباراك أوباما على هذا النحو: يسيطر رفسنجاني على مجلس الخبراء وبالتالي يعقد السيف المسلط على عنق خامنئي. وفي عام 2016، يفوز فصيل رفسنجاني بالأغلبية في انتخابات كل من مجلس الخبراء والمجلس الإسلامي في حين لا يزال يقبض على زمام السلطة في مؤسسة الرئاسة من خلال حسن روحاني المحسوب على فصيل رفسنجاني.
أعرب رفسنجاني علنا في أكثر من مناسبة أنه دائما ما يفضل نظام القيادة الجماعية؛ حيث تكون وظيفة «المرشد الأعلى» للجمهورية الإسلامية موزعة بين 3 و5 من الملالي بدلا من واحد. من شأن ذلك الإصلاح أن يعمق من مكانة الرئيس المنتخب عن طريق السماح له بالعمل بصفته رئيسا حقيقيا للسلطة التنفيذية في الحكومة، وفي الوقت ذاته السماح أيضا للمجلس الإسلامي (البرلمان) بالعمل بصفته سلطة تشريعية حقيقية وليست مصطنعة. كما يجري دمج مجلس صيانة الدستور مع مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي ظل رفسنجاني رئيسا له لما يقرب من 20 عاما.
طالما نظر أنصار رفسنجاني إليه باعتباره النسخة الإيرانية من الزعيم الشيوعي الصيني دينغ شياو بينغ الذي ساعد في قيادة جمهورية الصين الشعبية إلى الخروج من الأزمة الثورية في اتجاه الحياة الطبيعية على الصعيد السياسي والتنمية الاقتصادية. كثيرا ما سلط رفسنجاني الضوء على نزعته البراغماتية، مشيرا إلى استعداده للتضحية بالآيديولوجية في مقابل الحفاظ على ممارسته للسلطة. في عام 1989، حينما جرى انتخابه رئيسا للبلاد، بعد وقت وجيز من وفاة الخميني، فاجأ كثيرين بقوله إنه مع كثير من الملالي السياسيين «على استعداد لنزع عباءاتهم التقليدية وارتداء الملابس العادية إذا كان ذلك ضروريا ويصب في خدمة الشعب الإيراني».
كتب رفسنجاني بنفسه السيرة الذاتية لأحد رؤساء الوزراء الإيرانيين من القرن التاسع عشر ويدعى ميرزا تقي خان أمير كبير، الذي يعتبره أنموذجه السياسي المثالي. ومن الأعمال البارزة التي يذكر بها أمير كبير كانت محاولته تقديم العلوم وقواعد الحكومات الغربية إلى قاجار إيران في وجه المعارضة الشديدة من جانب الملالي الرجعيين. وبدلا من محاولته تأسيس شخصية دينية لذاته، استخدم رفسنجاني وسائل الإعلام في الترويج لنفسه تحت اسم «جنرال البناء»، مؤكدا على التنمية الاقتصادية بدلا من التقوى الدينية.
وهكذا، يشمل سيناريو رفسنجاني حول التغيير، انخفاضا تدريجيا في النغمة الدينية للنظام الحاكم لصالح الخطاب الجديد الذي يعنى بالنمو الاقتصادي، والتقدم العلمي، والإصلاح الاجتماعي.
أما يزدي، على الناحية المعاكسة، فيعتقد أن خفض وتيرة الثيمات الدينية يمكن أن يؤدي إلى سقوط حتمي للنظام الحاكم.
إذا كان الناس يسعون وراء النمو الاقتصادي والإنجازات العلمية، فلماذا ينبغي الحصول عليها من الملالي بدلا من خبراء الاقتصاد والعلماء؟
على أي حال، فإن المهم بالنسبة ليزدي، وقبل كل شيء، هو بناء مجتمع يستند على القيم الدينية وتحكمه الشريعة الإسلامية (القانون الإسلامي)؛ حيث قال: «إننا لم نقم بالثورة من أجل الأسباب الاقتصادية؛ بل اندلعت ثورتنا على أيدي أناس متعطشين للإسلام»
عانى سيناريو رفسنجاني دوما من عدد من العيوب.. أولا، ليس هناك ما يضمن سهولة إقصاء خامنئي عن واجهة المشهد في إيران. ووفقا لكل الروايات، لا يزال الرجل أبرز الشخصيات وأكثرها شعبية في النظام الإيراني الحاكم وبشكل متزايد داخل دائرة الدعم الضيقة حوله. وفي أي انتخابات يجري تنظيمها على يد النظام الحاكم وبالتالي تعتبر مغلقة في وجه الغرباء، فإن خامنئي أو أي شخصية يؤيدها سوف تفوز بتلك الانتخابات ضد أي شخصية أخرى مدفوعة من قبل فصيل رفسنجاني.
كذلك، ليس من سبب يدعو إلى عدم نجاة خامنئي من جراحة سرطان البروستاتا، فإذا ما قدر له طول العمر مثل سلفه الخميني، فلا يزال أمام خامنئي ما لا يقل عن 10 سنوات في الحكم، وهي الفترة ذاتها التي تصورها الرئيس أوباما في مسعاه لعقد اتفاق مع الملالي.
يعتقد المحلل الإيراني حميد زمردي أن انتخاب محمد يزدي يوم الاثنين الماضي يظهر أن العجلة الأولى من آلية التغيير التي يقودها رفسنجاني قد انفرط عقدها، ويقول: «حتى مع دعم أوباما لموقف فصيل رفسنجاني عن طريق منحه مظهرية (الانتصار الدبلوماسي)، فليس من ضمان بأن العجلات الأخرى لآلية التغيير المتداعية سوف تأتي بجديد في انتخابات عام 2016».