(في رثاء أبو عيسى ، الشهيد الخامس في عائلته) مقالتي ليست دعوة إلى التمرد على حزب الله، فقد تعلمت من الماركسية كيف أكون مع الاختلاف من داخل الوحدة وكيف لا تكون الوحدة وحدة حقيقية إلا في ظل المحافظة على الاختلاف، ولأنني اكتشفت أن كل أنواع الانشقاق التي عرفتها البشرية في تاريخ دياناتها وأحزابها وتياراتها الفكرية والايديولوجية، شيعة وسنة، بروتستانتية ومارونية وكاثوليكية ، معتزلة وأشعرية ، ماوية ولينينية وتروتسكية، إلى آخر اللائحة، لم تشكل حلولا ناجحة لمسألة الاختلاف في الرأي، بل هي كانت تشعل الحرب كلما ركبت في قناة الفكرة رأسا معدنيا قاتلا، على قول المتنبي، كلما أنبت الزمان قناة ، ركب المرء في القناة سنانا.  ولا هي ردة فعل على استشهاد بطل هو الخامس من عائلة واحدة من أقربائي؛ ولا هو ندم على انخراطي طويلا وبصدق في التضحية من أجل "القضايا الكبرى"، بعد أن نجوت من رصاص صهيوني أصابني ذات مرة ، ومن رصاص صديق كاد أن يصيبني أكثر من مرة، وكانت نجاتي  مع الآلاف من رفاقي وأبناء شعبي مجرد صدفة أبقتني وإياهم على قيد الحياة.    بل هي نوع من رجاء أكرره على مسامع حزب الله لإعادة النظر في مسلمات عن الموت والشهادة والوطن والقضية، وهي المسلمات ذاتها أو ما يشبهها التي تحكمت بمخيلتي ومنهج تفكيري حين كنا نمجد التضحية في سبيل القضية ونحصي أعداد من قضوا من رفاقنا في الحزب الشيوعي دفاعا عن حزبهم وقضايا وطنهم وأمتهم، وينتظر كل منا ترتيبه في اللائحة ، إلى أن حرك استشهاد الطبيب حكمت الأمين في داخلي ركود تلك المسلمات، فتساءلت لماذا قضى خارج عرينه الطبي وبعيدا عن بلدته ومستشفاه؟ وهل قضى حقا في سبيل القضية؟ وكيف يمكن أن تكون القضية قد ارتوت من دمه؟ مات حكمت الأمين تحت انقاض دير الراهبات في قصف اسرائيلي وحشي على بلدة الرميلة. لكنه لم يكن قد قصد الدير اختياراً، بل لتفادي الموت برصاص صديق، في معارك أخوية كانت قد نشبت بين أهل الجنوب بإشراف النظام السوري . موته أيقظني وأشعل أمامي نور حقيقة مرة وهي أننا تفانينا(رحنا نفني بعضنا بعضا)، بعضنا نيابة عن الثورة الفلسطينية ودفاعا عن قضيتها، وبعضنا الآخر نيابة عن الشقيقة ودفاعا عن نهجها، ولم يسعفني ديالكتيك التحليل يومذاك لكي أحدد بالضبط موقع القضية على خريطة دمه، لكثرة ما تراكم على تلك الخريطة من الأسئلة التي تبحث عن  إجاباتها. كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ، وحسب المنايا أن يكن أمانيا. قول المتنبي هذا يعني أن الموت مرض وأن أصعب ما في هذا المرض هو اعتقادنا بأنه يشفينا من أوهام المرض ومن الخوف من المرض. "وقهرنا عبادنا بالموت"، أوليست تعني الآية أن الموت عقوبة ؟ هي العقوبة ذاتها التي ذكرها المتنبي في قول آخر حين قال: إذا أنت أمعنت الحياة وصرفها ، لأيقنت أن الموت ضرب من القتل. رحت أبحث عن معنى القضية بين الموت والقتل، بين الداء والشفاء والمنية والأمنية، فلم أجد في تشييع أبو عيسى غير دمعة الطفل على غياب أبيه البطل. قد يكون من العبث أن نطلب من الشهداء أن يكفوا عن الموت وألا يتكاثروا، لكن من الحكمة أن ندعو إلى قراءة النص الديني بعين أخرى، فالقول أن "الآخرة خير من الأولى" لا يعني تحقير الحياة ولا دعوة الأحياء للابتهاج بموت ذويهم، ولا الاحتفال بالحزن كأنه مهرجان، ولا البكاء على التاريخ كأنه انتصار محاط بالبهارج ولا استبدال المشاعر الجياشة بطقوس خرساء بكّاءة على شهداء التاريخ؛ ومن الحكمة أن ندعو إلى قراءة التجربة والتعلم من تجارب الآخرين، خصوصا من أولئك الذين رسموا بدماء الشهداء من كل الطوائف والمناطق خريطة للوطن. ومن الحكمة تذكير حزب الله أنه ليس الوحيد الذي صاغ من مخيلته الايديولوجية حلماً جميلاً وقضية سامية، وأن قضية ثانية افتداها مناضلون شيوعيون أو ثالثة افتداها سواهم لم تكونا أقل قداسة، في نظر أصحابها، من القضية التي يفتديها مجاهدو حزب الله. غيفارا غادر أميركا الجنوبية إلى البحر الكاريبي لينصر ثورة كوبا، والشيوعيون أتوا من كل أوروبا دفاعا عن الثورة في إسبانيا، والشيوعيون اللبنانيون تدربوا في غور الأردن وفي معسكرات الثورة الفلسطينية في سوريا ، ولم تتسع لهم الأرض اللبنانية فقصدوا حدود ليبيا مع التشاد. حين ذاب الثلج وبان المرج، لم يبق غيفارا حيا ليكون شاهدا على المصالحة مع "العدو الامبريالي"، ولا تمكن اليسار من المشاركة في السلطة الاسبانية إلا بعد أن تخلى الدكتاتور طوعا عن سلطته الاستبدادية، ولم يندم الشيوعيون اللبنانيون على شيء كندمهم على النضال تحت راية نظام ليبي استبد به شخص مشعوذ. لم تكن خيبات النضال بسبب نقص في قداسة القضايا أو في صدق الانتماء وقوة العزيمة، بل لأن الحجج التي أقنعت المناضلين وشحنت نفوسهم بالحماسة من أجل قضايا سواهم لم تكن متوافقة مع قوانين التاريخ ووقائعه ولا متطابقة مع أحكامه، ولأن لكل قضية من هو أولى بتقرير مصيرها، ولأن العوامل الداخلية، لا قوى الدعم الخارجي، هي الحاسمة، فلا الجيوش السوفياتية حمت الانقلابات العسكرية في أفغانستان وأثيوبيا وسائر أفريقيا أو الأنظمة داخل المعسكر الاشتراكي، ولا جيش عبد الناصر تمكن من حماية الجمهورية ولا وحدة اليمن، ولا الجيش الأميركي صمد في العراق ولا قبله في فيتنام، بل عادت الجيوش كلها إلى ديارها مهشمة، مخلية للعوامل المحلية المجال لصنع مستقبلها. على سبيل القياس، نتمنى لأبطال حزب الله أن يسلموا من تبعات عجز العوامل الداخلية في سوريا عن الصمود أمام تحديات الزلزال، وعجزها عن تحرير تراب الجولان المحتل، حيث لن يسمح لهم بأن يكونوا بديلا خارجيا عنها، ولن يقووا على الدفاع عن مبررات متلاحقة حملتهم إلى خارج الحدود اللبنانية لأكثر من مرة، من نفي أي نوع من التدخل في البداية إلى التذرع بحماية المقامات والقرى الشيعية داخل الحدود السورية، إلى حماية النظام نفسه من السقوط، إلى مواجهة التكفيريين، إلى تحرير الجولان وفلسطين، وقد تطول اللائحة. دمعة ابن الشهيد هي التعبير الصحيح الصادق عن المشاعر. ليسمح لنا حزب الله أن نبكي الشهداء لا أن نبارك موتهم، لأن من يملك مثل شجاعتهم للموت في أقرب غد يستحق أن يحيا كأنه يعيش أبداً، ولأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، على قول محمود درويش؛ ولتكن نصائح الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين دليلا سياسيا لنا جميعا، لنساعد الشيعة اللبنانيين على الاندماج في وطنهم النهائي لبنان؛ ولنتمسك بالقيمة الرمزية لفكرة المهدي التي تشبه فكرة المسيح المخلص وسواها في ديانات أخرى، بدل توظيفها في مشاريع هي من نسج المصالح السياسية ووقودها من نسج خيال المؤمنين ، بل لنخضع هذه الفكرة الرمزية لامتحان الفرضيات العلمية، لكونها من خارج النص المقدس، ومن بينها الاحتمال العبقري الذي وضعه الباحث الشيعي العراقي عبد الغني الملاح في كتابه " المتنبي يسترد أباه .