طوى الرئيسان الاميركي باراك أوباما والكوبي راوول كاسترو نصف قرن من القطيعة والتوتر، بإعلانهما، يوم امس، عن بدء تقارب تاريخي من شأنه ان يطوي آخر فصول العداء التاريخي الموروث من حقبة الحرب الباردة، متعهدين بالعمل على اعادة العلاقات الديبلوماسية على مستوى السفراء، والانفتاح على تعاون اكبر في المجال الاقتصادي.
وجاءت هذه الخطوة التاريخية تتويجاً لمحادثات شاقة، ساهم في انجاحها البابا فرنسيس، وبلغت ذروتها، امس الاول، حين اجرى اوباما وكاسترو اتصالاً هاتفياً استغرق قرابة الساعة، واتفقا خلالها على اتخاذ اجراءات تقود الى تحسين العلاقات، ومن بينها الافراج عن اميركيين اتهما بالتجسس في هافانا، في مقابل اطلاق سراح ثلاثة كوبيين تتهمهم واشنطن ايضاً بالتجسس لصالح نظام كاسترو.
وقال اوباما، في خطاب تاريخي من البيت الابيض، ان «عزل كوبا لم يعط نتيجة». وشدد على ضرورة اتباع «نهج جديد»، قائلاً باللغة الاسبانية، وهي اللغة الرسمية في كوبا: «نحن كلنا اميركيون». وأضاف «هناك تاريخ من العلاقات المعقدة بين الولايات المتحدة وكوبا، لكن الوقت حان لفتح صفحة جديدة».
وبالتزامن، كان راوول كاسترو يعلن، من هافانا، انه اتفق مع اوباما على اعادة العلاقات الديبلوماسية.
وقال كاسترو، في خطاب بثته وسائل الاعلام الرسمية، «هذا لا يعني ان (المشكلة) الرئيسية، اي الحصار الاقتصادي، قد تمت تسويتها»، في إشارة إلى الحظر الذي فرض على الجزيرة الشيوعية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي في العام 1962.
واشاد كاسترو بالرئيس الاميركي، قائلا «هذا القرار من قبل الرئيس اوباما يستحق اعتراف وتقدير شعبنا»، موجها كلمة شكر الى البابا فرنسيس الذي ساهم في التوصل الى هذه الخطوة.
وسيبدأ وزير الخارجية الاميركي جون كيري «فوراً» مباحثات لاعادة العلاقات الديبلوماسية على ان تفتح سفارة اميركية في هافانا خلال «الاشهر المقبلة» وهو امر ظل لفترة طويلة غير مطروح.
ووعد اوباما بمناقشة مسألة الحظر في الكونغرس، لكن النقاش يتوقع ان يكون صاخباً، خصوصاً أن اصوات داخل الولايات المتحدة بدأت تشوّش على هذا التقارب، وقد عبّر عنها رئيس مجلس النواب الاميركي جون بينر حين اعتبر ان اوباما «قدّم تنازلاً آخر في سلسلة طويلة من التنازلات الطائشة» للنظام الكوبي.
واثر خطاب اوباما، اعلن البيت الابيض ان قيام الرئيس الاميركي بزيارة الى كوبا ليس «مستبعدا»، حسبما قال المتحدث الرئاسي جوش ارنست، الذي اوضح: «ليس هناك اي شيء مقرر حتى الآن.. لكني لا استبعد زيارة رئاسية»، مشدداً على ان اوباما «اذا سنحت له فرصة للزيارة فلن يفوّتها».
ومن بين الاجراءات المعلنة لتحسين المبادلات الاقتصادية، ان يسمح للاميركيين باستخدام بطاقات الائتمان في كوبا، وللشركات الاميركية بفتح حسابات في المصارف الكوبية، وبتصدير بعض اجهزة وبرمجيات الاتصالات لتحسين خدمات الانترنت. كما سيسمح للمسافرين الاميركيين بجلب ما قيمته مئة دولار من التبغ، بما في ذلك السيجار الكوبي الشهير.
في المقابل، لم يسمح بعد بالزيارات السياحية البحت الى كوبا، مع تسهيل الاجراءات لسفر الباحثين والمدرّسين والصحافيين وحتى الزيارات العائلية.
واعلن عن التقارب بعد ان توصل البلدان الى اتفاق لمبادلة سجناء تم بفضله الافراج عن الاميركي الان غروس (65 عاما) لقاء الافراج عن ثلاثة كوبيين ادينوا بالتجسس هم جيراردو هرنانديز ورامون لبانينو وانطونيو غيريرو.
وقال كاسترو إن الكوبيين الثلاثة، الذين تعتبرهم هافانا «ابطالا»، قد وصلوا الى كوبا. وأضاف «عاد جيراردو ورامون وانطونيو اليوم (أمس) الى وطنهم». وتابع «لاسباب انسانية عاد المواطن الاميركي الان غروس ايضا الى بلاده».
وكان غروس، المتعاقد مع وكالة المعونة الاميركية، قد اوقف في العام 2009 في كوبا، وحكم عليه بالسجن 15 عاماً بعدما ادخل معدات للاتصال عبر الاقمار الاصطناعية ممنوعة في كوبا.
كذلك، اعلنت واشنطن عن الافراج عن كوبي كان يعمل لصالح الاستخبارات الاميركية ولم يكن سوى قلة يعرفون بوجوده. وقال اوباما «مقابل الكوبيين الثلاثة، افرجت كوبا عن احد اهم عملاء الاستخبارات الاميركيين في كوبا، والذي كان مسجونا منذ قرابة عشرين عاماً، وهو الآن بأمان لدينا».
ومنذ تولي راوول كاسترو الحكم في العام 2008، ظهرت بوادر خجولة للانفراج بين واشنطن وهافانا، حيث خفف اوباما قيود السفر الى كوبا. وفي كانون الاول العام 2013، تصافح اوباما وكاسترو في جوهانسبورغ خلال حفل تأبين الرئيس الجنوب افريقي نلسون مانديلا. وتبادل الجانبان اشارات المودة في اطار مكافحة «ايبولا»، حيث ارسلت كوبا مئات الاطباء والممرضين الى غرب افريقيا برغم امكانياتها المتواضعة. وفي حدث نادر، حيا كيري جهود كوبا.
وبرغم اتباع واشنطن سياسة حازمة إزاء كوبا، اظهرت استطلاعات الرأي ان غالبية الاميركيين يؤيدون تغيير السياسة ازاء الجزيرة المحاصرة، بما في ذلك سكان فلوريدا، حيث تعيش جالية كبيرة اميركية من اصول كوبية مناهضة لنظام كاسترو.
ومنذ 50 عاماً، هاجر مئات الآلاف من الكوبيين معظمهم الى الولايات المتحدة. والى اوائل المهاجرين السياسيين في بداية الثورة، اضيف الاف من المهاجرين لاسباب اقتصادية ظلوا على علاقة مع وطنهم الام.
وقال مسؤول اميركي إن الرئيس السابق فيدل كاسترو لم يشارك في مباحثات التقارب. واشتهر كاسترو بخطاباته الطويلة التي كان يتهجم فيها على «العدو الاميركي الامبريالي البغيض».
وبحسب مسؤول في الإدارة الاميركية، فإن الانفراجة التاريخية بدأت في ربيع العام 2013، حين سمح أوباما بإجراء محادثات سرية مع كوبا، وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه لبدء محادثات نووية مع إيران.
وبلغت شهور من المحادثات في كندا والفاتيكان، بمشاركة واحد من أقرب معاوني أوباما، ذروتها أمس الاول، حين تحدث أوباما وكاسترو هاتفيا لنحو ساعة، واتفقا على خطوات من شأنها أن تنهي نصف قرن من العداء، وتعيد تشكيل العلاقات في نصف الكرة الأرضية الغربي.
وبحسب المسؤول الأميركي فإن البابا فرنسيس لعب دورا أساسيا في التقارب بين واشنطن وآخر معاقل الشيوعية في العالم الغربي.
وفي بداية صيف 2014، بعث البابا رسائل شخصية منفصلة إلى أوباما وكاسترو داعيا إياهما لتبادل السجناء وتحسين العلاقات.
وحين استقبل البابا الرئيس الأميركي في الفاتيكان أواخر آذار الماضي، كانت المحادثات السرية مع كوبا محوراً رئيسيا للنقاش. وسارع فرنسيس إلى تهنئة الولايات المتحدة وكوبا على خطوتهما التاريخية. وأشار الفاتيكان، في بيان، الى ان ديبلوماسييه سهلوا المحادثات بين البلدين «التي أدت الى حلول مقبولة لكل من الطرفين».
وأضاف البيان ان «قداسة البابا يود أن يعبر عن تهنئته الحارة على القرار التاريخي الذي اتخذته حكومتا الولايات المتحدة وكوبا لاقامة علاقات ديبلوماسية بهدف التغلب على المصاعب التي خيمت على تاريخهما الحديث من اجل مصلحة مواطني البلدين».
من جهته، اعلن الامين العام للامم المتحدة بان كي مون استعداد المنظمة الدولية للمساعدة في تحسين العلاقات بين الجانبين.
كذلك، رحب رؤساء اميركا اللاتينية باعلان اوباما وكاسترو، الذي وصفه الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بأنه «تصحيح تاريخي».
وقال مادورو، خلال قمة «ميركوسور»، وهي السوق المشتركة التي تضم البرازيل والارجنتين وفنزويلا والاوروغواي وباراغواي، في بارانا شمال الارجنتين، «نحن نشهد الآن يوما تاريخيا»، معتبراً ان تطبيع العلاقات يرمز الى «انتصار الاخلاق والقيم، وهو انتصار لفيدل كاسترو، وانتصار تاريخي لشعب كوبا».
كذلك، رحّب بالخطوة كل من وزير خارجية المانيا فرانك فالتر شتاينماير، ووزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.