فيما يلي كلمة السيد جواد الخوئي الامين العام لدار العلم للإمام الخوئي النجف الأشرف  والعضو المؤسس للمجلس العراقي لحوار الاديان في مؤتمر يهدف إلى مناهضة ومكافحة استخدام الدين في تبرير العنف والتحريض على الكراهية ينظمه مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات .

السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ
      يُسعِدُني ويُشرِّفُني أن أكونَ بينكم للتفكيرِ معًا في المشتركاتِ الإنسانيةِ والأخلاقيةِ والدينيةِ التي تجمعُنا، ولتأشيرِ نقاطِ الخللِ التي سمحتْ للتطرفِ والغلوِّ والتناحُرِ أن تـدسَّ رؤوسَها بين صفوفِنا، وتحاولُ التحدثَ باسمِنا.
      دعوني أقول أولاً ، إنني رجلُ دينٍ، ولكن كعراقيٍّ مدنيٍّ أنتمي إلى المذهبِ الإسلاميِّ الشيعيِّ، أجدُ نفسي مُلزَماً بالدفاعِ عن المنهجِ الإنسانيِّ للدينِ أيِّ دينٍ، وأرى أن انتمائي المذهبي لا يمنعُني من تأشيرِ نقاطِ تطرفٍ تسرَّبتْ إلى بعضِ أطرافِ المذهبِ الإسلاميِّ الشيعيِّ، مثلما تسربتْ الى باقي المذاهبِ الإسلاميةِ، بل إن التطرفَ هو سلوكٌ ومنهجُ تفكيرٍ قد يُصيبُ كلَّ منهجِ تفكيرٍ وكلَّ تيارٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ او اقتصاديٍّ.
      وعندما نعرّفُ التطرفَ بوصفِهِ المستقلِّ عن التوجّهاتِ والأفكارِ في أصولِها الإنسانيةِ، نكونُ قد قطعنا نصفَ المسافةِ باتجاهِ فرزِ المتطرفينَ من كلِّ تيارٍ وتحويلِهم الى عصبةٍ واحدةٍ تستمدُّ قدرتَها على النُمُوِّ من إصرارِنا على تصنيفِها مذهبياً او دينياً او فكرياً.
      المفارقةُ التي لا يتمُّ تأشيرُها بدقةٍ على المستوى الحضاريِّ هي أنَّ قوةَ المؤمنينَ بالأصولِ الإنسانيةِ للدينِ والفكرِ، تكمنُ في توحُّدِهِم وتكاتفِهِم للدفاعِ عن وجهِ الدينِ السمحِ والمتسامحِ والحقيقيِّ، في حين أن قوةَ المتطرفينَ تكمنُ في تفتُّتِهِم وإصرارِنا على تصنيفِهِم على المذاهبِ والأديانِ وعدمِ جمعِهِم في إطارٍ تعريفيٍّ واحدٍ.
      ولن يكونَ بالإمكانِ محاربةُ التطرفِ الا عبرَ اقتسامِ الساحةِ الى جبهتينِ، الأولى للمؤمنينَ بالتسامُحِ والإنسانيةِ والقِيَمِ العُليا، وبالتعايُشِ كمصيرٍ لا مَناصَ من اللجوءِ اليه، والأخرى جبهةٌ لرافضي التعايُشِ، والداعين الى فرضِ أفكارِهِم عبرَ القهرِ والدمِ والاستبدادِ.
 عندما نقولُ إن هناك هامشَ تطرفٍ يشمُلُ كلَّ المناهجِ والمدارسِ الدينيةِ، يتمُّ الحديثُ عن الفعلِ وردِّ الفعلِ، وهذا الحديثُ مراوغٌ في الحقيقةِ، لأنه يحاولُ تبريرَ التطرفِ لا مواجَهَتَهُ، والنقطةُ الحرجةُ التي نقفُ فيها اليومَ تتطلبُ مواجهةً حقيقيةً وصريحةً، تعزلُ المتطرفينَ عن الغطاءِ المذهبيِّ الذي يحاولون الالتحاقَ به.
       نفترضُ أن اجتماعَ وتوحُّدَ الممثلينَ الحقيقيينَ للمدارسِ الإسلاميةِ المختلفةِ، هو الطريقُ الأمثلُ لعزلِ التطرفِ والمتطرفين وتعريتِهِم.
      ما نراه اليومَ هو أن التطرفَ يحاولُ تجريمَ الطوائفِ الأخرى، وشيطنَتَها، واتهامَها بالكفرِ والشركِ، بل يحاولُ تحليلَ دمِها.
      والغلاةُ المتطرفونَ لم يجرُؤوا على مثلِ هذا التعميمِ الخطيرِ لولا الضعفُ الذي لمَسوه في المنهجِ التجديديِّ والإنسانيِّ والفكريِّ الذي يسمحُ برصِّ الصفوفِ، وعدمِ منحِ المتطرفينَ فرصةَ التأويلِ والتفسيرِ والتبريرِ.
       من هذه النقطةِ الحساسةِ بدأ الخللُ، والمعالجةُ الأوليةُ تتطلبُ سدَّ هذه الثغرةِ ومحاولةَ إيقافِ توسُّعِها لتبتلعَ المذاهبَ الإسلاميةَ في فتنةٍ طائفيةٍ لن يكونَ ضحيتَها إلا الدينُ الإسلاميُّ والشعوبُ الإسلاميةُ.
       وفي هذا الصددِ نرى أن تلاقيَ مشايخِ الأمةِ وعلمائِها والركونَ إلى الفتاوى المشتركةِ التي تعترفُ بالتعايُشِ، وترفضُ الإساءاتِ المتبادلةَ بل تُحرِّمُها، وتنفتحُ على فهمِ الآخَرِ كأخٍ في الدينِ أوالإنسانيةِ، وشريكٍ في الوطنِ والتاريخِ والمستقبلِ، هو مدخلٌ أساسيٌّ لبدءِ التحركِ المضادِّ للتطرفِ.
       الدولةُ هي قيمةٌ كبرى في العصرِ الحديثِ، ومحاولةُ إنهاءِ الدولةِ، والعبورُ على القيمِ التي جمعتْ أبناءَها، وتحطيمُ أسوارِها وافتراضُ بُطلانِها هي من بينِ الممارساتِ التي كانت من المداخلِ لنشرِ الإرهابِ والتطرفِ من كلِّ اتّجاهٍ.
      استعادةُ الدولةِ تتمُّ أولاً من خلالِ استعادةِ قيمِ الدُوَلِ والبناءِ على المشتركاتِ والسياساتِ الرشيدةِ التي تسمحُ للمواطنِ بالنظرِ الى دولتِهِ كتنظيمٍ يُمثّلُ تطلُّعاتِهِ وآمالَهُ ويحمي مستقبلَ أبنائِهِ.
       وترسيخُ قيمِ الدولةِ، لابدَّ أنْ تتضمَّنَه المناهجُ التعليميةُ والتربويةُ والإعلاميةُ بشكلٍ مكثفٍ، ولابدَّ أن تشهدَ المناهجُ التعليميةُ مراجعةً شاملةً، تُتيحُ محاربةَ الكراهيةِ، ونشرَ القيمِ الدينيةِ العليا والمُثُلِ والأخلاقياتِ الساميةِ التي يزخَرُ بها تاريخُنا ودينُنا، وأن يتمَّ الاتفاقُ بينَ الشعوبِ الإسلاميةِ المختلفةِ على مناهجَ تُعيدُ تعريفَ التراثِ الإسلاميِّ، بما يَسمحُ بعدمِ تحويلِ هذا التراثِ الى مُبرِّرِ كراهيةٍ ومدخلٍ الى التطرفِ.
       في العراقِ ، كبلدٍ مُتنوِّعٍ شهِدَ تاريخُهُ تعايُشاً عميقاً، وتناحُراً عميقاً أيضاً، كُنّا على الدِوامِ بحاجةٍ الى رؤيةِ دولةٍ تمنعُ تجذُّرَ الكراهيةِ، لكنَّ تجاربَ الدولةِ العراقيةِ المتعاقبةِ لم تنجحْ كثيراً في التعامُلِ مع الحساسياتِ الاجتماعيةِ عبرَ منظورِ الدولةِ الجامعةِ، برغمِ المحاولاتِ التي حدثتْ على هذا الطريقِ.
      وبعدَ سقوطِ النظامِ السابقِ، حدثتْ نكسةٌ حقيقيةٌ في الدولةِ، ويُمكنُ القولُ إننا دخلنا مرحلةَ اللادولةِ إذ أسهمَ سوءُ الإدارةِ والفسادُ والافتقارُ الى السياساتِ الحكيمةِ وعدمُ مدِّ يدِ المساعدةِ من الجيرانِ والأصدقاءِ والأشقّاءِ، الى تجذُّرِ إحساسِ المواطنِ بعدمِ حصولِهِ على العدلِ، فمِظلَّةُ الدولةِ لم تنجحْ في أن تُصبِحَ سقفاً للجميع، فسادَ شعورٌ عامٌّ بالتمييزِ الطائفيِّ، ضاعَفَهُ الفشلُ السياسيُّ في معالجةِ إرثِ النظامِ السابقِ، بروحيةٍ متسامحةٍ وعقلانيةٍ وإنسانيةٍ.
      وأوَدُّ هنا الإشارةَ الى أنَّ منهجَ الدولةِ العراقيةِ بعدَ عام 2003 لم يكنْ يُرضِي المرجعيةَ الدينيةَ العليا في النجفِ التي يتصدَّرُها آيةُ اللهِ العُظمى الإمامُ السيدُ عليٌّ السيستانيُّ، الذي تعرفون جميعاً أنَّهُ قاطعَ السياسيينَ، ورفضَ أن يُستخدَمَ اسمُهُ في الصراعاتِ السياسيةِ، وحَذَّرَ من أيِّ تمييزٍ على أساسٍ طائفيٍّ او عِرقيٍّ، ، وانشغلَ بالحديثِ عن ضرورةِ تكريسِ قِيّمِ المواطَنَةِ والحكمةِ في إدارةِ الدولةِ، بل إنَّه طالَبَ بدولةٍ "مدنيةٍ" تَعبُرُ فوقَ الطوائفِ، وتتعالى على الانحيازاتِ يتعايشُ فيها السنّيُّ والشيعيُّ والمسلمُ والمسيحيُّ والصابئيُّ والأيزيديُّ والعربيُّ والكرديُّ والتركمانيُّ.
     هذه الرؤيةُ لم تكنْ غائبةً عن الوسطِ السياسيِّ العراقيِّ، بل إنَّ السيدَ السيستانيَّ أوصلَ أفكارَهُ الى هذا الوسطِ مرارًا وتَكراراً واضطُرَّ الى اتّخاذِ موقفٍ شديدٍ في النهايةِ من السياساتِ المنحرفةِ والوقوفِ بوجهِ هذا الانحرافِ بنفسِهِ.
     إذا كان العراقُ قد تحوّلَ الى بيئةٍ للتطرفِ، وساحةٍ للصراعاتِ، فإنَّ ظروفاً وأطرافًا مختلفةً قادتْ الى هذا المصيرِ، ولم تكُنْ النجفُ التي تمسَّكتْ بمنهجِها المعتدلِ والإنسانيِّ والمنفصلِ عن السياسةِ، بعيدةً عن تأشيرِ هذا الخطرِ وتوصيفِهِ.
      ويجب التنبُّهُ على أنَّ ممارساتٍ متطرفةً لأفرادٍ او مجموعاتٍ لا تُمثّلُ حوزةَ النجفَ وعلماءَها المعتمدين، فالتاريخُ لم يُشِرْ الى أيّةِ فتوى من علماءِ حوزةِ النجفِ ومراجِعِها ضدَّ الأديانِ الأخرى والمذاهبِ الإسلاميةِ وأتباعِها ولم نرَ موقفاً مُتطرِّفًا او طائفيًّا صدرَ من هذه المؤسّسةِ العلميةِ والدينيةِ خلالَ عشْرةِ قرونٍ من تأسيسِها.
       كما أنَّ رسالةَ النجفِ للعالَمِ الإسلاميِّ هو أنَّ الإسلامَ والمسلمَ يتوقفان على ركنين : التوحيدِ والرسالةِ المحمديةِ ، فمَنْ آمنَ بهما فهو مسلمٌ محقونُ الدمِ والمالِ والعِرضِ سواءٌ أ كانَ سنيًّا او شيعيًّا.
      ومن خصائصِ الحوزةِ العلميةِ ومرجعيَّتِها الاستقلاليةُ الماليةُ والسياسيةُ والتعليميةُ ولم تخضعْ لأيّة دولةٍ او حكومةٍ ولا تقبلُ منهم أيَّ تدخُّلٍ في شؤونِها وقراراتِها، ودفعتْ الثمنَ باهضًا لأجلِ هذه الخاصِّيَّةِ.
       كما أنَّ العلماءَ الأعلامَ في كلِّ المذاهبِ الإسلاميةِ، يحمِلونَ القِيَمَ نفسَها، وروحيةَ التسامُحِ نفسَها، ونحنُ بناحاجةٌ الى المزيدِ من الحوارِ للتوصُّل الى جبهةٍ إسلاميةٍ موحَّدَةٍ تنبُذُ التطرُّفَ وتُعيدُ إنتاجَ روحِ التعايُشِ في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ والعالمِ، لمحاصرةِ التطرفِ وأصحابِهِ.
       أُنهِي كلمتي بتجديدِ تشرُّفِي بالوقوفِ أمامَ هذهِ النُخَبِ الخيِّرةِ من المفكِّرينَ والأئمّةِ والأعلامِ ، داعياً اللهَ أن يحفظَكُم ويَشدَّ أزْرَكم ويجمعَ كلمتَكم لتكريسِ السلامِ والأخلاقِ والتعايُشِ كقِيَمٍ تُمثِّلُ جوهرَ الدينِ الإسلاميِّ العظيمِ.
                      

جواد الخوئي 
الأمين العام 
دار العلم الإمام الخوئي
 العراق - النجف الأشرف