مع تصاعد الحديث عن ظاهرة “الإلحاد” التي يزعم أنها بدأت بغزو مجتمعاتنا الوطنية والعربية، ظهر عدد من المقالات التي تتناول هذه العقيدة “المدانة” على حدّ وصف غالبية وسائلنا الإعلامية، وبلغت الذروة في لبنان قبل أقل من شهر في مناسبة أيام عاشوراء، عندما هاجم أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله تفشي هذه الظاهرة وانتشارها في وسائل التواصل الاجتماعي، والسبب برأيه هو أن البعض يحاول أن يشوّه الدين فيقول أن أعمال القتل، والذبح وقطع الرؤوس التي يقوم بها تنظيم “داعش” الإرهابي هو نتاج طبيعي للدين الإسلامي، مؤكداً السيّد أن الإسلام براء من هذه الأعمال الهمجيّة. يتفق الجميع على أن هذه الظاهرة هي بالطبع مدانة ومستنكرة، مع العلم أن الحزب الشيوعي اللبناني ذو العقيدة الإلحادية وهو حزب عريق في لبنان والعالم العربي، إنما نما وترعرع في مجتمعاتنا العربية المسلمة منذ منتصف القرن الفائت وانتشر في بلدان عدّة وإن لم يستلم السلطة فيها، فبقي إلى جانب أنظمة اشتراكية دعمها الاتحاد السوفياتي يومها أيام الحرب الباردة، مثل مصر وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي وغيرهاوكذلك في لبنان، فقد شكّل الحزب الشيوعي اللبناني حالة عامّة في السبعينات، مع ومنظمة العمل الشيوعي التي تزعمها السيد محسن ابراهيم ، وتعايش الحزبان في جنوب لبنان مع النسيج “الشيعي” بسلام، فلم تؤثر الاجتماعات الحزبية على المؤمنين المصلين في المسجد ولا على من يؤم المجالس الحسينية أيام عاشوراء، بل كان يعتلي العديد من القادة الشيوعيين المنابر الحسينية في المناسبات الوطنية وحتى الدينيّة منها، وكانت القضايا السياسية هي المواضيع الطاغية، فلم يكن موضوع الإيمان والإلحاد مطروحا ولا مفكّرا فيه أصلاً. كان الإيمان في ذاك الزمان صلباً وقويّاً لا يخاف مدّاً شيوعياً وغيره، وكانت الشيوعية بدورها واعية، فلم تتعرض للأديان في أية مناسبة، لقد كان المجتمع اللبناني بكافة طوائفه يمارس فعل فصل الدين عن المعتقد السياسي يشكل عفوي، وما زال الشيوعيون إلى يومنا هذا رغم خفوت صوتهم وقلّة عددهم يعيشون بسلام ووئام، لا يتعبّدون ولا يمارسون طقوساً دينية، كما أن أحداً لا يطلب منهم ذلك. غير أنّ الذي استجدّ في السنوات الأخيرة هو التحوّل الذي طرأ على المجتمعات العربية الإسلامية وانسحب على وطننا بعد الثورات التي اصطلح على تسميتها بـ”الربيع العربي”، إذ سرعان ما مورست تعبئة دينية مكثفة وشرسة، قام فيها مشايخ ورجال دين من أجل الوثوب الى السلطات واستلامها بدلاً عن حكامها الذين رحلوا بعد ثورات شعوبهم، فقام هؤلاء يكفّرون كل السياسيين المدنيين وذلك من أجل أن تخلو الساحة لهم في مصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق وغيرها، وقبلا، كانت الطائفة الشيعية قد وصلت اليها تلك الموجة منذ سنوات مع المدّ الايراني وحزب الله، فغيرت معالم الدين والمذهب،وعمّت ثقافة الولاء للإمام القائد كشرط مكمّل للإيمان، فهو لا يكتمل ولا يصح، بحسب تلك التعبئة الدينية المستجدة، ما لم يقرن هذاالايمان بالولاء لمرشد الثورة في إيران، ولنائبه في لبنان السيد حسن نصرالله، وكذلك في العراق عمت أيضا ثقافة الولاء أيضا للأحزاب الدينية ولرؤسائها بعد ان كانت مقتصرة على مراجع التقليد الكبار أمثال السيد الخوئي والسيستاني والشيرازي وغيرهم، وهؤلاءلا يتدخلون بالشان العام وعصموا انفسهم عن التعاطي في الشأن السياسي للناس وتركوا الامر حتى ظهور الامام المهدي. وقد كان نتيجة بروز الولاء للحزب االديني في مجتمعاتنا ،ان أصبح الإيمان بالخالق هشّاً مرتبطاً بالقائد الديني على الأرض وليس مرتبطا بالله في السماء، فيعظّم الإيمان ويكبّر في نظر عامة الجمهور إذا قوي الموقف السياسي للحزب الديني وللطائفة، ويتهافت هذا الإيمان عندما ينكسر هذا الحزب فيتركه مريدوه ويكفرون به لينتقلوا إلى حزب آخر. هذا ما حلّ بجمهور المؤمنين السنّة في العالم العربي بعد مقتل زعيم القاعدة على أيدي الأميركيين أسامة بن لادن وانتقلوا بإيمانهم إلى أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش، وأثناء هذا التحوّل برز “الإلحاد”، كظاهرة في المجتمع السنّي تعبيراً عن هزيمة الدين، فأين “الله” الذي سمح للأميركيين أن يهزموا قائد المسلمين “بن لادن”، وأن يقتلوه شرّ قتلة؟ فإذن “االله غير موجود” وما يقوم به الشيوخ من تبليغ ديني وتحريض سياسي هو نفاق كما اكتشفوا. هذا هو منطق الملحدين في العالم العربي، وهو كما يقول الخبراء الاجتماعيون برز نتيجة أمرين، الأمر الأول هو الولاء للقائدالإلهي وسلطته المقدّسه والمستمدة من الله، والثاني هو انكسار وفشل المشروع السياسي الديني بعد انكشاف عدم فعاليته وجدواه في بلادنا، فتبدّد بذلك الوعد الالهي الذي قطعه الله على نفسه ان ينصر المؤمنين ويهزم “الكفار”، أعداء الدين والمذهب، ليسود دين الله الاسلام وحيدا فريدا على العالمين. ويحضرنا في هذه المناسبة قول المفكر الإسلامي الشيعي الراحل السيد هاني فحص الذي كان يدعو كرجل دين متنوّر، إلى فصل الدين عن الدولة وعن السياسة بشكل عام،وذلك “رحمة بالدين” على حدّ تعبيره، لئلا “يفسد بعضهما بعضاً، فلا دين ينتج دولة ولا دولة يمكن أن ينتج ديناً”. ان ما أدركه الراحل السيد هاني فحص وما زال يصرح به السيد محمد حسن الأمين، وغيرهما من المفكرين المتنوّرين الذين وعوا خطورة تأثير الإسلام السياسي بكافة أشكاله على الدين وعلى “الإيمان بالله”، يرجع لادراكهم حقيقة ان الإيمان بالمشروع السياسي الاسلامي وبالقائد هو إيمان ببشر فانين ،ولو ان اصحابه يدعون انه في سبيل الله ، وهو خطير على الدين لأن من شأنه لاحقا التمهيد لظهور “الإلحاد”، عند انكسار المشروع السياسي أو غياب القائد بعد وفاته أو قتله. وكما حلّ بالقاعدة بعد “بن لادن”، حلّ كذلك في إيران بعد وفاة الإمام الخميني الذي أعلن انه أرسى دولة الله على الأرض بحكم ولاية الفقيه بعد نجاح ثورته عام 1979، من دون أن ينجح هو ومن خلفه لاحقا في بناء نظام إسلامي أساسه العدالة كما تصور مريدوه، وكما وعد الامام الراحل، بل ساد استفراد بالسلطة بعده وقمع جديد بإسم الدين صحبه تضييق على الحريات، لتنتشر الأفكار العلمانية المعارضة بين النخبة الايرانية، ثم ليبرز الإلحاد تعبيرا شعبويا عن احباط الشباب، كظاهرة تعلن عن فشل المشاريع الدينية السياسية، و”موت الله” كما قال نيتشه الفيلسوف الألماني قديماً. وليتأكد من يهمه الأمر أن إيمان الولاء للقائد المقدّس ولحزبه الديني العقائدي،الذي حلّ مكان الايمان البسيط بالله المجرّد كما كان سابقا، هو من سيتسبب بابتعاد الناس نهائيا عن التديّن، وما نشهده اليوم من جدل وتشكيك بالدين وجدواه في بعض الأوساط الشبابية هو بداية ثورة على المفهوم السائد للدين المقترن بالجهاد والعنف، وهي محطة تؤرخ للمرحلة ما قبل الأخيرة التي تسبق تكريس الالحاد الناكر لوجود الخالق، وذلك بالتلازم مع انهيار المشاريع الاسلامية التي تحاول دون جدوى ان تتسلّط باسم الدين على رقاب البشر لتحد من حريتهم وتنال من معاني انسانيتهم.