عندما وضعت الجولة الأخيرة من الاشتباكات بين بعل محسن والتبانة أوزارها، تم الإعلان عن خطة أمنية، وافق عليها الجميع، بغية وقف التدهور المخيف في عاصمة الشمال، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً.. ولقيت ممانعة ورفضاً من فريق 8 آذار، ولم تبصر النور إلا بعد جهد ومشقة كبيرين.

كان من قواعد تطبيق الخطة الأمنية، إنشاء غرفة عمليات مشتركة بين الأجهزة الأمنية، بهدف ضبط وتنقية الأداء الأمني من شوائب الاستفراد أو الكيدية أو الاستقطاب السياسي لصالح هذه الجهة أو تلك.

كان الهدف من الغرفة المشتركة التي جمعت الأجهزة الأمنية في طرابلس، أن تجعل العين الأمنية أكثر قدرة على رؤية مكامن الخطر الأمني، والتوصل إلى نهاية للشكاوى المستمرة والمتواصلة، من سلوك بعض الأجهزة، وخرقها للقوانين.

كان المطلوب من غرفة العمليات هذه أن تجعل الاعتقالات مبنية على أسباب وجيهة وأسس متينة، وأن لا تتحول إلى عامل احتقان وإلى مصدر لتغذية مشاعر الغضب والخوف والرفض، لدى شرائح باتت تحت مقصلة الاستهداف، دون مراعاة القواعد الأساسية للعدالة، ودون حفظ الحد الأدنى من ماء الوجه للقانون.

.. إلا أنه مع تتابع الأحداث تبيـّن لنا أن غرفة العمليات المشتركة في طرابلس قد تبخرت وكأنها لم تكن، من دون أن نعرف لماذا، ولا على أي أساس ومن اتخذ هذا القرار.. وعادت الاعتقالات العشوائية والانتهاكات لحقوق الناس الإنسانية والسياسية، فتفشت آفـة التعذيب، وتلاشت المدة القانونية الملزمة للتوقيف أو إطلاق السراح.. فنتج عن هذا المسار جملة نماذج في غاية السوء، أحدها اعتقال مجموعة القلمون، وإطلاق أغلب أفرادها أبرياء مظلومين، وبقاء الآخر رهينة الابتزاز السياسي، خاصة أن نظام بشار الأسد وضع القلمون في دائرة البلدات المعادية له، من خلال خطاب مندوب بشار الأسد في الأمم المتحدة، الذي زعم وجود مجموعات وصفها بالارهابية في هذه البلدة الوادعة المسالِمة، المعروفة بأنها تزخر بالطاقات الفكرية والعلمية والدينية الحضارية.

وفي طرابلس نفسها وفي المنية وعكار، لا يكاد يمر يوم دون أن يشهد تكدس المزيد من المعتقلين، وهو أمر أشار إليه نواب طرابلس في أكثر من بيان، واستنكروا عشوائية الاعتقالات، بحيث تبين أن نسبة كبيرة من الموقوفين، تم احتجازهم لأسباب غير أمنية، وتحديداً لعدم ترخيصهم للدراجات النارية التي يركبونها، واضطر معها الرئيس نجيب ميقاتي إلى التحذير من الاعتقال الممنهج للشباب الملتحين على الحواجز في طرابلس.

السؤال الآن: من الذي اتخذ القرار بفرط غرفة العمليات المشتركة، ومن المسؤول عن تداعيات هذا القرار.. وما هو موقف رعاة الخطة الأمنية من شطب هذا البند المؤسس لخطتهم..؟؟

والسؤال الأهم: كيف يمكن إعادة إحياء غرفة العمليات المشتركة وإعادة التوازن إلى عمل الأجهزة الأمنية، وإلى استعادة شيء من الثقة المفقودة بهذه الأجهزة، نتيجة إصرار البعض على إحداث الخروقات على حساب كرامات وحقوق المواطنين..؟؟

المطلوب بصراحة ووضوح إعادة إحياء الحوار السياسي المؤسّس للخطة الأمنية لطرابلس، وصولاً إلى تصحيح المسار الذي سبق لوزير الداخلية نهاد المشنوق أن اعترف بأنه انحرف، ثم فجّر حياله موقفه الشهير في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن، وتصحيح المسار لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار النقاط الآتية:

·       أن يعاد إحياء غرفة العمليات المشتركة، وأن تتحمل القوى السياسية مسؤوليتها الواضحة في هذا المجال، لا أن تتبع سياسة الصمت، لأن هذه السياسة لم تعد مقبولة ولا محتملة.

·        أن تطلق المؤسسة العسكرية موقفاً واضحاً يعيد الاعتبار لطرابلس، وقد كانت بداية جيدة لهذا الاتجاه ما أعلنه قائد الجيش العماد جان قهوجي من أن طرابلس ليست بيئة حاضنة للإرهاب وأنها مع الدولة ومع القانون.. لكن هذا الموقف يحتاج إلى ترجمة عملية، تنتهي بموجبها الكيدية الأمنية في سلوك البعض، والارتخاء والتجاهل لحقيقة المشكلات من البعض الآخر.

·       أن يواكب القضاء العملية الأمنية بقوة وشفافية، تسمح بتسريع الوصول إلى النتائج المطلوبة بحق من يتم توقيفهم، من حيث البراءة أو الإدانة، على قاعدة وقف ومنع التعذيب، والالتزام بالمدة القانونية للتوقيف، لأن ضم المزيد من المحتجزين إلى مئات آخرين على قارعة العدالة وفي زنازين الإهمال، لن يؤدي إلا إلى مزيد من الأزمات التي يتحمل مسؤوليتها من يضع طرابلس على مرجل من نار.