في آذار 2011 انطلقت الثورة السورية ضد نظام بشار الاسد، متخذة في بدايتها طابعاً سلمياً بحتاً، ولكن ما لبثت ان تبدلت الامور ودخل السورييون مرحلة "عسكرة الثورة" التي رافقها بروز تنظيمات إسلامية متشددة. وكان لبنان يسير بين ألغام ما يجري في سوريا بدقة متناهية، لكنه لم يسلم في كثير من الاحيان من التفجير السياسي بسبب مشاركة "حزب الله" في الحرب.   دخل "حزب الله" سوريا للدفاع عن المقدسات الشيعية، ثم لحماية نظام الاسد، ودخل تنظيم "داعش" لتفجير مناطقه في لبنان، الامر الذي شكل أزمة سياسية وأمنية في لبنان، اذ بات السنة يرون الحزب يشارك في المعارك ضد "اخوانهم" في سوريا.   ومع تصاعد الجو الطائفي في لبنان والمنطقة وتراجع تيارات الاعتدال الاسلامي برزت "هيئة علماء المسلمين" المكونة من السلفيين و"الجماعة الاسلامية" وبعض المشايخ المستقلين، في سعي منها لملء الساحة السنية، في غياب الممثل السياسي الاول لها الرئيس سعد الحريري.   تشكلت الهيئة من خليط اسلامي قلّما اجتمع من قبل (مشايخ السلفية ومشايخ الجماعة الاسلامية) الذين لم يلتقوا تاريخيا في اي تجمع او حزب او جماعة نظرا الى بعض الاختلافات الفقهية، وبدأت تبرز على الساحة الطرابلسية بداية خلال الاشتباكات بين الجبل والتبانة، ولاحقا في عبرا اثناء مواجهة الشيخ أحمد الاسير الجيش و"حزب الله"، ثم في مطالبتها باطلاق الشباب السنة الذين يعودون من القتال في سوريا، وبنت علاقات داخلية وخارجية مع قطر وتركيا، اللتين يقال انهما الممول الاساسي للهيئة وانهما من يرسم سياستها.   وبالفعل تمكنت من تحقيق نجاحات عدة تسجل لها، ولاقت تعاطفاً سنياً كبيراً بعد تعرض رئيسها السابق الشيخ سالم الرافعي لإطلاق الرصاص ورفاقه في عرسال خلال المعارك الأخيرة.   وبعد توالي مشايخ عدة على رئاستها الدورية (نظامها الداخلي ينص على انتخاب رئيس كل 6 أشهر) انتخب رئيس دائرة اوقاف عكار الشيخ مالك جديدة رئيسا لها، وهو المعتدل في كلامه وسلوكه والمقرب من كل التيارات السياسية، وانتخابه لم يكن محل ترحيب من كثيرين على ما يبدو، وقد ظهر ذلك جليا عندما "تفرد" جديدة وشارك في احياء ذكرى استشهاد الرئيس رشيد كرامي، وهو ما اعتبره مجلس ادارة الهيئة نقطة سوداء في مسيرتها، باعتبار ان الرئيس عمر كرامي ونجله فيصل يسيران في الخط الايراني في لبنان، وتوالت بعدها الاعتراضات على جديدة، فما كان منه الا ان ابتعد عن المشهد ملتزما الصمت الى حين تكون الظروف مؤاتية.   وأمس خرج عن صمته بتقديمه استقالته، فكان كلامه مدويا، اذ انه قلب الطاولة على الهيئة ومشايخها، متهما اياهم بأنهم شكلوها لاهداف ثلاثة: البعض لمحاربة دار الفتوى، والآخر من اجل كسب المال (زيارات لدول خليجية بهدف الحصول على المال باسم اللاجئين السوريين وباسم استكمال مشاريع تنموية يعود نفعها على المسلمين في لبنان)، والثالث لكسب ودّ الطائفة من أجل الزعامة".   واذ صوّب جديدة على السلفية و"الجماعة الاسلامية" متهما اياهما بالسعي لجعل الهيئة شركة خاصة به، من خلال ادخالهم من لا يحملون حتى الاجازة الشرعية الى الهيئة، أكد ان "هيئة اسلامية جديدة ستولد برعاية دار الفتوى وسيكون عنوانها الاعتدال والوسطية".   لا شك في ان وقع بيان الشيخ جديدة كان ثقيلا على مشايخ الهيئة الذين آثروا الصمت وتداعوا الى اجتماع لم تعرف عناوينه الرئيسية، الا ان البعض منهم قال لـ"النهار": "الشيخ جديدة انتهت ولايته في 6-11-2014 ولم يجدد له كما تم الاتفاق من قبل، وبالتالي هو لم يستقل، بل لم يعد رئيسا للهيئة منذ هذا التاريخ، وعلى اي حال فان الهيئة مستمرة، وخروج شخص بعينه لا يعني زوالها، بل هي باقية وتتمدد".   وعلمت "النهار" أنه في خفايا الأمر يثار الكثيرمن الكلام، عن أن جديدة استقال بهذه الطريقة استجابة لنداء خليجي أتى لفرط عقد الهيئة وانهاء دورها، وخصوصا بعد المصالحة التي تمت يوم الاحد الماضي في الرياض بين السعودية والامارات والبحرين من جهة وقطر من جهة اخرى، وتمثلت بعودة سفراء هذه الدول الى قطر، وما دامت الهيئة محسوبة على قطر فمن الطبيعي ان يخفت وهجها لتعود دار الفتوى باعتدالها فتتصدر الساحة السنية.   وتعزو آراء أخرى من داخل الهيئة تصرف جديدة الى طموحه لمنصب مفتي عكار، وانه فعل ذلك ليقدم اوراق اعتماده لدى اهل الحل والربط. ويشار الى ان الهيئة عقدت اجتماعا مسائيا لها لم يصدر عنه سوى بيان مقتضب تم فيه قبول استقالة جديدة مع "استهجان المجتمعين لما ورد في البيان المنسوب اليه"، وانتخاب الشيخ سالم الرافعي رئيسا جديدا لها لمدة 6 أشهر.         بقلم:مصطفي العويك