انجلى غبار المعركة الأخيرة في طرابلس عن كارثة هائلة، لا يخفف من وطأتها قرارات تعويض تتراكم، ولا بيانات تضامن لم تعد تسمن ولا تغني من جوع ودمار وحرمان... ليس من شاهد كمن سمع. هذه هي الحقيقة الصارخة، التي لم تصل مفاعيلها بعد لا إلى الرأي العام ولا إلى أصحاب القرار على حـد سواء. فواقع الحال هو أن دماراً غير مسبوق قد حل بأحياء التبانة الفقيرة المتداعية، نتيجة استعمال "القوة المفرطة" من قبل الجيش كما وصفها نواب طرابلس في بضعة عشر بياناً واكب تلك المرحلة. وبغض النظر عن المآلات الكبرى لتلك المواجهة، من حيث بدايتها ونهايتها، إلا أن ثمة أسئلة لا تزال تفرض نفسها، قبل أن نمتلك الشجاعة لنقول إن عاصمة الشمال قد خرجت فعلاً من تلك المحنة، وان الأمن قد استتب فعلاً للدولة: ــ أول هذه الأسئلة أين هم المسلحون الذين قيل إنهم خاضوا المواجهة ضد الجيش في السوق العريض والسراي العتيقة، وفي التبانة، وهل صحيح أنهم خرجوا بتفاهم؟ الواضح أنهم استطاعوا أسر ثلاثة عسكريين في أسواق المدينة القديمة، كما كشف النائب سمير الجسر، إضافة إلى رهينة أخرى في التبانة.. والأكيد أنهم تمكنوا من الخروج الآمن بطريقة محترفة بأقل الخسائر.. الأمر نفسه حصل في التبانة، وفي المنية، بالتوازي مع مواكبة متصاعدة من جبهة النصرة، وضعت فيها ملف العسكريين المخطوفين لديها على طاولة الصراع. ــ السؤال الثاني: هو لماذا لم تتعرض الأماكن التي تواجد فيها المسلحون إلى أي استهداف في القصف الذي حصل على التبانة، حيث بقي جامع عبد الله بن مسعود والمنازل المعروفة للمسلحين بعيداً عن أن تنالهم رصاصة واحدة.. في المقابل، انهالت القذائف وصواريخ الطائرات على الأماكن السكنية وعلى المحال التجارية والمؤسسات، فحفرت عميقاً في وجدان أهل التبانة، الذين احترقت سياراتهم فتحولت كتلاً من الحديد الذائب المنكمش على نكبته.. وتهدمت منازل هي أصلا متصدعة لأن دولتنا العظيمة لم تنظر إليها بعد الحرب الأهلية.. واستباحا القذائف المحال والمؤسسات، فترى الفجوات فيها، وقد أتت القذائف عليها فأحالتها قاعاً صفصفاً.. الضحايا من قتلى ومن جرحى، لا تعترف بهم الهيئة العليا للإغاثة كأشخاص يستحقون التعويض عن بعض ما لحق بأهلهم وبالمصابين منهم من خسائر.. لينضموا إلى قافلة الإهمال الطويلة والطويلة جداً.. قمنا خلال الأيام الماضية بجولة في التبانة والأسواق القديمة، لنخرج بجملة انطباعات، أهمها: ــ أن المواجهات الأخيرة أحدثت تدميراً ممنهجاً واسع النطاق في التبانة، من الصعب معالجة آثاره بالأسلوب الباهت الذي يجري حالياً، وليس من المنتظر إذا استمرت الأمور على ما هي عليه أن نخرج بنتائج ذات جدوى. فالتعويض يجب أن يكون معنوياً أولاً، وذلك عن طريق إعادة الاعتبار لمنطقة نبذتها الدولة، وإذا ذكرتها، فهي تذكرها كعنوان دائم للحرمان، أو بالأصح التقصير والتهميش، على مدى العقود المتتابعة، والعهود المتعاقبة. ما رأي السادة الوزراء في أن يعقدوا مجلسهم المقر في شارع سوريا وسط التبانة، وأن يروا بأم العين ما يكابده هؤلاء اللبنانيون من شظف العيش، ويبحثوا يكف يمكن أن يكفروا عن ذنوب الدولة التي يمثلونها بحق التبانة ومحيطها الممزق بأشرطة الفقر والمحاصَر بأحزمة الحرمان.. المضحك المبكي أن آلية عمل الهيئة العليا للإغاثة جاء في هذا الاستحقاق كغيره من الاستحقاق، خاضعاً للروتين ولطرق العمل التقليدية، فاصطدم بإشكالات تتعلق بإثبات إشغال العقارات، وستصطدم بحجم التعويضات المحددة والسقف المعطى للهيئة، مقارنة بحجم الدمار والحاجة إلى الترميم والإصلاح لتمكين الأهالي من إستعادة حياتهم السابقة. ولا يقتصر الإشكال على خسائر هذه الجولة أو الجولات السابقة، بل يجب التحرك للعودة إلى أصل الإشكال في حاجات الناس في التبانة، وخاصة في مجال البنى التحتية.. حيث قطاع المياه والصرف الصحي دائم التداخل، مع ما يحمله هذا التداخل من مشاكل كبيرة، تطال صحة الأهالي. والكارثة، هي أنه منذ ما يزيد عن العشر سنوات، تم إنشاء شبكة مياه حديثة، لكنها حتى الساعة لم ترتبط بالشبكة ولم تصل عبرها المياه إلى أهل التبانة، لأسباب تتعلق بالفساد والسمسرات، والأنكى من هذا كله أن هذا التأخير الممتد منذ أكثر من عقد من الزمن، لا يلقى أي اهتمام، بل اتجه الأهالي إلى فتح آبار ارتوازية واتباع حلول آنية، دون أن تتوجه البوصلة إلى أصل الداء ومكمن البلاء.. والواقع التعليمي والتربوي في التبانة لا يقلّ كارثية عن عن قطاع المياه، فالتعليم الرسمي يكاد يلفظ أنفاسه، والتسرب المدرسي يضرب في الأعماق،مشرداً المزيد من أبنائنا، ومنتجاً المزيد من مشاريع الخروج على المجتمع.. التبانة والمنكوبين والقبة... مواقع حرمان باتت مصدر قلق كبير عليها وعلى أهلها، ونقترح على الإعلام المسارعة إلى التعامل باعتبارها منطقة منكوبة، يجب أن يواكبها الإعلاميون بشكل متواصل وأن ينقلوا كل قضاياها لتصبح محجة العمل السياسي والاجتماعي والإنمائي، عسى أن يكون ذلك باعثاً على إنصاف التبانة ومحيطها وعاملاً في نزع فتائل التفجير المنتشرة فيها منذ سنوات عجاف طوال..

 

 

 الكاتب والصحافي في لبنان الجديد الاستاذ: احمد الأيوبي