يفصلنا أسبوع واحد عن انتهاء المهلة التفاوضية بين إيران والدول الست الكبرى حول الملف النووي الإيراني، وفي هذه الأيام تتزاحم آمال الطامحين في التوصل إلى حل سلمي مع أمنيات الراغبين بفشل المفاوضات. ولا تقتصر تلك الآمال والأمنيات على الأطراف المتفاوضة، بل تمتد إلى الساحة الإقليمية التي تترقب النتيجة بقلق كبير. ومرد ذلك أن نتيجة هذه المفاوضات، التي تضع واشنطن وطهران في مواجهة بعضهما البعض تفاوضياً، ستؤثر تأثيراً ملحوظاً في موازين القوى في المنطقة، إما بتقنين حضور إيران الإقليمي أو محاصرته أكثر. ومع أهمية البعد الإقليمي في المفاوضات الإيرانية - الأميركية، يُظهر تقليب النظر في مسار العلاقات الإيرانية - الأميركية خلال العقود الماضية أن «الورقة الأميركية» لا تقتصر أهميتها فقط على البعد الإقليمي، بل تمتد في الواقع إلى عمق المعادلة الداخلية الإيرانية. وكشفت أحداث السنوات الخمس والثلاثين الماضية أن «الورقة الأميركية» كانت - وما زالت - وسيلة ممتازة بيد التيارات السياسية المتنافسة لحشد الحلفاء ومحاصرة الخصوم، وقلب المعادلات الداخلية الإيرانية. وإذ حلّت هذا الشهر ذكرى احتلال السفارة الأميركية في طهران العام 1979، تلك التي افتتحت لأول مرة لعبة «الورقة الأميركية» في معادلات إيران الداخلية، يصبح ضرورياً تحليل الكيفية التي لُعِبَت فيها هذه الورقة من وقتها وحتى الآن؛ للخروج باستنتاج مهم حول السيناريو المرجح لنتيجة المفاوضات مع انتهاء المهلة التفاوضية الأسبوع المقبل.   احتلال السفارة الأميركية ومفاصل الدولة الإيرانية   افتتح احتلال السفارة الأميركية في طهران في الرابع من تشرين الثاني العام 1979، فصلاً جديداً من العلاقات الإيرانية - الأميركية. حينذاك كانت الثورة الإيرانية قد انتصرت، وهرب الشاه من إيران وعاد الإمام الخميني إلى بلاده من منفاه، وتم تحييد الجيش وشكلت الحكومة الانتقالية لإجراء الاستفتاء على الجمهورية. في هذه اللحظة التاريخية وجدت العملية السياسية وعملية التغيير الثوري نفسهما في أزمة مستحكمة، كان عنوانها المؤسسي الصراع بين مجلس الثورة الموالي للإمام الخميني والحكومة الانتقالية بقيادة مهدي بازركان. أما العنوان السياسي البارز وقتها فكان الصراع الدائر بين أنصار نظرية «ولاية الفقيه» بقيادة الإمـام الخمـيني من ناحية، وباقي التيارات السياسية الإيرانية المعارضـة للنظرية، وعلى رأسها التيار القومي الليبرالي والتيار اليساري بتنويعاته، من ناحية أخرى. يومها اندفع مئات من «الطلبة السائرين على خط الإمام» إلى داخل السفارة الأميركية، متخذين من الديبلوماسيين الأميركيين رهائن. وبالتوازي مع احتلال السفارة، جرت تصفية كاملة لليسار من المشهد السياسي الإيراني، مع استبعاد الجناح القومي الليبرالي من الحكومة وإنكار دوره في انتصار الثورة. وبزخم احتلال السفارة ولعب «الورقة الأميركية»، تم تمرير ومأسسة «ولاية الفقيه» في الدستور الإيراني، فأحكم التيار الديني قبضته على مفاصل الدولة الإيرانية بالكامل.   «الورقة الأميركية» من رفسنجاني إلى أحمدي نجاد   استمرت «الورقة الأميركية» جزءاً لا يتجزأ من صراعات إيران الداخلية، فبعد وفاة الإمام الخميني وتولي السيد خامنئي منصب الإرشاد، صعد رفسنجاني إلى منصب رئيس الجمهورية لفترتين متتاليتين (1989-1997). ومع نهايات فترته الرئاسية الثانية، جاهر رفسنجاني بأهمية تحسين العلاقات الإيرانية - الأميركية بغرض استعمالها كأداة، في ما بدا وقتها صراعاً مكتوماً بينه من ناحية وبين السيد خامنئي والتيارات المتشددة من ناحية أخرى. ثم عاد الأمر ليتكرر بطريقة أخرى مع انتخاب محمد خاتمي رئيساً لإيران العام 1997، خلفاً لرفسنجاني. حظي خاتمي وقتها بدعم قيادات «الطلبة السائرين على خط الإمام»، هؤلاء الذين تحولوا من اتخاذ الديبلوماسيين الأميركيين رهائن العام 1979 إلى المناداة بتحسين العلاقات مع أميركا في بداية الألفية الجديدة. هنا يبلغ التحليل الخاص بأهمية «الورقة الأميركية» في معادلات إيران الداخلية ذروة كفايته التفسيرية، إذ ان احتلال السفارة ثم المطالبة بعد عقدين بتحسين العلاقات مع أميركا من قِبَل الأشخاص ذاتهم، لا يعكس تحولاً عقائدياً أو «توبة فكرية»، بقدر ما يشي بمعاودة هؤلاء استخدام «الورقة الأميركية» استخداما مغايرا وبهدف واحد: تغيير موازين القوى الداخلية المائلة لمصلحة خصومهم المحافظين. اللافت أن قيادة «الطلاب السائرين على خط الإمام» المحتلة للسفارة الأميركية العام 1979 ضمت كل قيادات التيار الإصلاحي المؤيد لخاتمي بعدها: إبراهيم أصغر زاده ومحمد رضا خاتمي وسعيد حجاريان ومعصومة ابتكار وحبيب الله بيطرف وعباس عبدي ومحسن ميردامادي وغيرهم. وبتقليب النظر في هذه الكوكبة من السياسيين، نلاحظ أن إبراهيم أصغر زاده كان من قيادات «حزب التضامن الإسلامي الإصلاحي»، أما محمد رضا خاتمي فهو شقيق الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي والزعيم التاريخي لـ«جبهة المشاركة الإصلاحية»، في حين أن سعيد حجاريان عمل في وزارة الاستخبارات أثناء فترة رئاسة خاتمي الأولى وتعرض لمحاولة اغتيال بعدما صار الدماغ الاستراتيجي في معسكر الإصلاحيين، أما معصومة ابتكار فقد كانت نائبة الرئيس خاتمي، فيما كان حبيب الله بيطرف وزيراً للطاقة في حكومة خاتمي الإصلاحية. لم يكن توظيف «الورقة الأميركية» في تعديل التوازنات الداخلية الإيرانية حكراً على التيار الإصلاحي، إذ إن الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد حاول بدوره استعمالها في توقيت داخلي صاخب. وقد بعث أحمدي نجاد بأكثر من رسالة رسمية إلى الجالس في البيت الأبيض الأميركي، وخاصة في فترة ولايته الثانية ابتداء من العام 2009 التي فَتُرَت فيها علاقته تماماً مع السيد خامنئي. لم تسمح المؤسسات الإيرانية المعادية لأحمدي نجاد وقتها بلعب «الورقة الأميركية»، فأطاحته من السلطة عملياً قبل انتهاء ولايته الرسمية. كما أن تصريحات أحمدي نجاد النارية ضد إسرائيل، كبحت قدرته الموضوعية على استعمال «الورقة الأميركية» بفعالية، مقارنة بخاتمي أو حتى رفسنجاني.   «الورقة الأميركية» في عصر روحاني   يمثل الرئيس حسن روحاني تطوراً نوعياً في لعب «الورقة الأميركية» بالصراع الداخلي الإيراني؛ فالرجل لم ينتظر حتى استقراره في كرسي الرئاسة ليستعملها كما فعل سابقوه، بل استخدمها مبكراً جداً في دعايته الانتخابية. وكان لافتاً أن يؤيد زعماء «الطلبة السائرين على خط الإمام» المرشح الوسطي روحاني بسحب المرشح الإصلاحي محمد رضا عارف من السباق الرئاسي 2013، وبالتنظير لانفتاح إيران على أميركا. أيد الإصلاحيون روحاني، مثلما أيدوا خاتمي من قبله، وفي الخلفية هدف واحد: تعديل موازين القوى الداخلية في إيران في مواجهة المؤسسات المحافظة والعسكرية المعادية لهم. ومع زيارة روحاني إلى الأمم المتحدة بعد أشهر قليلة من انتخابه رئيساً، والمكالمة الهاتفية الشهيرة التي أجراها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته نيويورك، فقد كان اختراق روحاني الأكبر حتى الآن في العلاقات الإيرانية - الأميركية منذ حادثة احتلال السفارة الأميركية العام 1979. بالطبع لعب تغير البيئة الإقليمية في المنطقة وحضور إيران المتعاظم في الإقليم دوراً ملحوظاً في تسهيل الانفتاح على أميركا، إلا أن هذا الانفتاح لم يخلُ على الجانب الإيراني من أغراض داخلية. ومثّل الانفتاح على أميركا، بغرض إضعاف المؤسسات والتكتلات الراديكالية المنافسة، جانباً هاماً من سياسات روحاني حتى الآن. ويقول التقدير الواقعي لموازين القوى إنه برغم التقدم الذي أحرزه روحاني في هذا المضمار، فما زالت المؤسسات المحافظة تعرقل مساعيه بوسائل شتى، ولكنها لم تفلح مع ذلك في تخريب هذه المساعي حتى الآن. باختصار، ما زالت «الورقة الأميركية» أحد أمضى الأسلحة التي يمتلكها روحاني في مقابل خصومه داخل إيران.   الخلاصة   تعد «الورقة الأميركية» أداة مهمة لتعديل التوازنات الداخلية الإيرانية، وقاسماً مشتركاً في استخدامها بين رؤساء إيران على اختلاف ميولهم السياسية، سواء عبر التصادم مع واشنطن عند احتلال السفارة العام 1979، أو إطلاق دعوات التهدئة زمن رفسنجاني والحوار في عصر خاتمي والتفاوض من بعدها في عصر روحاني. لا يعني ذلك أن روحاني والوفد الإيراني المفاوض سيرفعان الراية البيضاء أمام مفاوضيهم للوصول إلى اتفاق بأي ثمن قبل انتهاء المهلة للحفاظ على «الورقة الأميركية»، إلا أن فشل المفاوضات النووية سيرتب تبعات سلبية متنوعة على إيران ورئيسها حسن روحاني. من بين هذه التبعات السلبية أن تتبخر «الورقة الأميركية» في يد روحاني بمواجهة منافسيه المحليين، الذين سيستخدمون الفشل كأداة للضغط عليه وعلى تياره. تأسيساً على ذلك، فالأرجح أن يفعل الوفد الإيراني المفاوض كل ما في وسعه لتجنب إعلان فشل المفاوضات أو رفع الراية البيضاء، فلا يتبقى في ضوء ذلك سوى التوصل إلى «اتفاق جزئي» يمدد المفاوضات لمهلة زمنية إضافية!